
الحق والعدالة
إن مفهومي الحق والعدالة مفهومين قد يتمظهران تارة بمعنى قانوني وحقوقي، وتارة أخرى بمعنى قيمي أخلاقي. كما أن معالجتهما الفلسفية، تستوجب استحضار المظهرين معا، خصوصا إذا علمنا أن سعي الناس إلى سن قوانين هو بغاية إحقاق الحق، وبالتالي ضمان نوع من الإنصاف والمساواة. ذلك ما يدفع بنا إلى طرح التساؤلات التالية: هل يقوم الحق على أساس فطري في الإنسان أم على أساس تعاقدي؟ هل العدالة حق أم أنها أساس لإقامته؟ إلى أي حد يمكن أن يضمن قيام العدالة الإنصاف والمساواة بين الناس؟
1 الحق بين الطبيعي والوضعي
يعتقد هوبز Hobbes أن الإنسان فطر على غياب الموانع أمام الذات، وبالتالي على وجود حق يقوم على الحرية المطلقة في أن يفعل الفرد ما يشاء. بل إنه حق يعطي الفرد القدرة على التحكم في أجساد الآخرين. فالإنسان ? في اعتقاد هوبز ? فطر على الأنانية والشر، وذلك ما يقود حتما إلى هيمنة حرب مطلقة (هي "حرب الكل ضد الكل"). وبما أن زمن الحرب لا يتحدد ضرورة في وقت نشوبها لأنه يمتدد إلى حالة التأهب والاستعداد لها ؛ فإن ذلك حتما سيحول بين الناس وبين التفكير والإبداع، ولن تكون هناك لا ملاحة ولا تجارة، ولن يسعى أحد إلى مراكمة الثروات لأن لا أحد يستطيع أن يضمن لنفسه البقاء، حيث لا يوجد فرد مطلق القوة يمكنه أن يفرض سلطته على الكل. إن هذا، ما سيدفع بالناس إلى الاحتكام إلى العقل، وبالتالي التفكير في السلم، حتى يضمن كل الحفاظ على ذاته. ومن ثمة سيتنازل الجميع عن حرياتهم الفردية مقابل أن يسود عليهم حاكم/أمير مستبد، ومن هذا المنطلق نجد الحق الطبيعي هو السائد ما دام الناس احتكموا إلى غريزة "حب البقاء" لتأسيس الدولة التي يحكمها رئيس لا يستطيع سوى أن يضمن شروط بقائه في الحكم حتى لا يرجع الناس إلى الوضع الطبيعي التي كان فيه "الإنسان ذئبا على أخيه الإنسان".
ومعلوم أن تمثلات ج.ج روسو تختلف بدرجة كبيرة عما يراه هوبز، لأنه (=روسو) يعتقد أن الانتقال من حال الطبيعة إلى حال المدنية يعتبر مكسبا، لأن الإنسان استطاع أن ينتقل من حالة الاستعباد التي تجسدها الخضوع للشهوة إلى حالة الحرية التي تتمثل في الخضوع للقوانين التي ساهم الجميع في تشريعها. هكذا يرفض روسو قيام القوانين على "الحق الطبيعي". فهذا الحق يتأسس على القوة، وهذه الأخيرة لا تخلف الحق لأنهما من طبيعتين مختلفتين: فالقوة قدرة فيزيائية، والحق قيمة أخلاقية. ومن ثمة، فإن القوة لا يمكن أن تولد عند الإنسان الشعور بالواجب لأن الامتثال للقوة يقود إلى طاعة الأقوى (أو بتعبير آخر، إن الطاعة التي تتأسس على القوة تزول بزوال القوة). هكذا يمكن القول بأن روسو لا يتمثل الحق والعدالة إلا في مجتمع ديمقراطي يقوم على الحق الوضعي أي حق أساسه التعاقد الاجتماعي.
إن التباين الذي يلاحظ بين الفيلسوفين السابقين يقود إلى طرح التساؤل التالي: ما هي طبيعة العلاقة الموجودة بين العدالة والحق؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار العدالة أساسا للحق؟
2. العدالة كأساس للحق
يعتقد سبينوزا أن الحق لا يمكن أن يسود إلا في إطار نظام مطابق للعقل متجاوز للخضوع للشهوة، وذلك ما تجسده الديمقراطية باعتبارها النهج الذي بعمل فيه الحاكم على ضرورة المحافظة على البناء الاجتماعي. لهذا يجب أن تمتثل الرعية لأوامر الحاكم وللقوانين التي يسنها. إن القانون لا يوجد إلا من أجل المحافظة على الحرية وتأمين الحياة الفردية. لهذا يجب ألا يسعى إلى خرقه وينطبق ذلك أيضا على الحاكم على الرغم من قدرته على ذلك. وذلك ما يؤكد، في نظر سبينوزا، وجوب الاستعداد الكامل لتنفيذ القوانين، على اعتبار أن العدالة تحتم تطبيقها دون تمييز بين الناس مهما اختلفت مراكزهم الاجتماعية.
ويحاول ألان Alain بطريقته الخاصة، أن ينفي وجود عدالة في ذاتها ولذاتها، لأن الحق يتمثل فيما تم الاعتراف به أنه كذلك، وأقره الناس عليهم. وهذا، ما يجعل الأمر القائم محتاجا إلى سند قانوني ولو أنه غير خاضع للإدانة: فقد بين ألان، أن المرء إذا سكن منزلا لمدة طويلة جدا، لا يستطيع أحد أن ينازعه فيه، لأنه أصبح أمرا قائما. ومع ذلك، لا يمكن أن يصبح هذا الوضع قانونيا إلا إذا استصدر الشخص حكما بثبوت الملكية وفق المتعارف عليه. وذلك ما يبين أن الفيلسوف يؤكد أن أساس العدالة يقوم على الاعتراف القانوني وإلا دخل الوضع القائم في مجال الحق الطبيعي الذي يتأسس على القوة.
إن الأفكار التي تم طرحها حول علاقة العدالة بالحق تدعونا إلى التساؤل عن قدرة العدالة على تحقيق المساواة بين الناس وإنصافهم.
3. العدالة بين الإنصاف والمساواة
يرى أرسطو أن القوانين عادة ما تصاغ بطريقة فضفاضة وعمومية، يجعلها لا تنطبق إلا على الحالات المعروفة والاعتيادية، مما يؤكد أن بها ثغرات خصوصا أن حركية المجتمع تفترض أن تظهر مستجدات لا تنطبق عليها التشريعات بشكل واضح وتام، وذلك ما يبين أن الخطأ ليس هو خطأ المشرع ولا خطأ القانون. ومن هذا المنطلق، يرى أن المقارنة بين العادل والمنصف تزكي أفضلية هذا الأخير، لا لشيء إلا لأنه إنسان يجتهد ويعمل على تكييف القوانين. لهذا نجد الفيلسوف يحث على العمل المتواصل من أجل تصحيح القوانين من خلال استصدارها من سلطة تمثيلية.
أما جون راولز J. Rawls ، فإنه يؤكد أن إقامة القوانين على أسس تعاقدية ديمقراطية، لا يمكن إلا تكون عادلة وتضمن المساواة على مستوى الحقوق. ومع ذلك فإنها لا تستطيع أن تحقيق نفس الغاية على المستوى الاجتماعي. فالمساواة القانونية لا تستطيع أن تلغي اللامساواة وبالتالي الفروق الاقتصادية والتراتبات الاجتماعية. ومن ثم نجد المفكر يدعو إلى إقامة نوع من العدالة الاجتماعية، من خلال محاولة العمل على جعل الكل يستفيد من ثروات المجتمع، وذلك للحد من تأثير النجاحات التي تأسست على الفرص التي أتيحت للبعض دون الكل.
كتخريج عام ، يتبين أنه يصعب معالجة كل الإشكاليات المرتبطة بمفهومي الحق والعدالة، نظرا لأنهما لا يتحددان فقط في مجالي الأخلاق والقانون، وإنما يتجاوزان ذلك إلى المستويين الاجتماعي والاقتصادي. ومهما يكن من أمر، فإن ترسيخ الحق والعدالة يبدآن بتأمين الحقوق الأساسية لجميع مكونات المجتمع، وبالتالي اعتبار النقاش الفاعل مدخلا ضروريا لبناء الدولة تأسيا بالمناخ الديمقراطي الذي ساد في "الساحة العمومية" Agora اليونانية، لأن تعلم الأفراد كيفية الانتماء إلى مجتمعهم يبتدئ من محاولة إشراكهم في البناء، وإحساسهم بأن هناك من يهتم بآرائهم
العلمية في العلوم الإنسانية
ظل الإنسان زمنا طويلا يعتبر نفسه ذاتا للمعرفة ،لا موضوعا لها ، أي أنه كان يأبى أن ينظر إليه كشيء من الأشياء القابلة للدراسة الموضوعية .إلا أن المستجدات والتحولات العميقة التي حصلت في مجموعة من المجالات ، وخاصة في ميدان البيولوجيا ، حيث سيصطدم الإنسان بحجم التشابه بينه وبين العديد من الحيوانات من الناحية البيولوجية .آنذاك بدأ الإنسان يعيد النظر في التصورات التي نسجها حول ذاته –كذات متفردة- وبدأ يفكر في مدى إمكانية الاستفادة من النماذج التي ابتكرتها العلوم الطبيعية ، وتطبيقها على الظاهرة الإنسانية ،أي محاولة تطبيق المنهج التجريبي في مجال العلوم الإنسانية ، إلا أن هذا المسعى سيصطدم بخصوصية الظاهرة الإنسانية المتميزة بفرادتها وتعدد أبعادها ، وامتلاكها للحرية عكس الظواهر الطبيعية المجردة منها : ففي مجال العلوم الطبيعية نشيء الموضوعات ، أما في العلوم الإنسانية فتشييء الظاهرة الإنسانية معناه تجريد الإنسان من خصوصياته الأساسية- وعلى رأسها حرية الاختيار والإرادة -أي تشويه الظاهرة الإنسانية . ومن هنا تطرح مشكلتا الموضوعية والنموذج العلمي الملائم لها . فإذا كانت الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة ، فهل تمكنت العلوم الإنسانية من تحقيق استقلاليتها عن العلوم الطبيعية و بناء نماذج ومناهج خاصة بها ؟أم أن خصوصية الظاهرة الإنسانية حالت دون بلورة خطاب علمي يرقى إلى مستوى العلوم الدقيقة؟
المحور الأول:مشكلة موضعة الظاهرة الإنسانية.
- جان بياجي: توجد عدة عوائق تعترض تحقيق العلمية في العلوم الإنسانية تتعلق بطبيعة موضوعاها. فالعلوم الإنسانية تتميز بخصوصية تتمثل في كون الذات الملاحِظة تلاحظ ذاتها (الذات الأخرى موضوع الدراسة)، مقارنة بانفصال الذات عن الموضوع (على الأقل بشكل عام) في العلوم التجريبية. يتعلق الأمر بتداخل الذات والموضوع إضافة إلى التزام الباحث بمواقف فلسفية وإيديولوجية.
يتعزز هذا الموقف من خلال ما أكد عليه “فرانسوا باستيان” في كتابه” التفلسف ″، من أن الباحث الاجتماعي لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته ، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل جهد علمي ، و ما دام كل باحث هو عضو ينتمي إلى جماعة …فهو منخرط بالضرورة في صراعات اجتماعية أو ضمنية من أجل الاعتراف والحظوة والسلطة , وهي صراعا ت تحرك المعتقدات والمثل و أوجه الخير والشر….و باختصار فإن الممارسة في مجال العلوم الاجتماعية تعيش مفارقة كبرى، فالممارس للعلوم الاجتماعية هو جزء من الجماعة التي يدرسها وهو في الآن نفسه مطالب بأن يظل بعيدا عما يرتبط به من قيم.
- وهو الأمر الذي يشدد عليه أيضا فرانسوا باستيان: لا يمكن للباحث الاجتماعي أن ينفصل كباحث عن مجتمعه كموضوع للبحث لأنه ينخرط رغما عنه، بفعل إكراهية وقسرية الظاهرة الاجتماعية في مواقف وصراعات ومعتقدات مجتمعه.
المحور الثاني:التفسير والفهم في العلوم الإنسانية.( إمكانية فهم الظواهر الإنسانية
كلود ليفي ستروس:
يقدم” ستروس” من خلال كتابه “الأنثروبولوجيا البنيوية ” موقف الاتجاه البنيوي من النقاشات الإبستيمولوجية المتعلقة بتفسير التنظيم الاجتماعي والأساطير والطقوس . وقد حاول “ستروس” إبراز التوجهات الجديدة للأبحاث الاجتماعية ومعايير علميتها. وبالنسبة إليه إدا كانت العلوم الدقيقة قد حققت تقدما بفضل عمليتيوالتنبؤ،والتنبؤ، فإن وضع العلوم الإنسانية لا زال يتأرجح بين التفسير والتنبؤ ،بل إنها علوم محكوم عليها أن تبقى في وسط الطريق:بين التفسير والتنبؤ(التفسير:هو قديم الأسباب التي تحدد ميلاد الظواهر وتحولها - التنبؤ:افتراض حدوث ظاهرة محددة بناء على قانون علمي)، ويقول ستروس بهذا الشأن:”لقد اكتفت العلوم الإنسانية ، حتى حدود اليوم ، بتفسيرات فضفاضة و تقريبية تنقصها الدقة دائما …والحقيقة أن العلوم الإنسانية تجد نفسها في وسط الطريقين التفسير والتنبؤ ، كما لو كانت عاجزة عن السير في اتجاه التفسير أو في اتجاه التنبؤ …إن العلوم الإنسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا ، ولا تتنبأ النافعة،…غير أنها تقدم للممارسين شيئا وسيطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة ،أي نوعا من الحكمة التي تسمح بتحسين الأداء ، لكن من غير الفصل النهائي بين التفسير والفهم”
- إذا كانت العلوم الحقة تقوم بعمليتي التفسير والتنبؤ فهل بإمكان العلوم الإنسانية القيام بذلك أيضا؟
- جواب 1: ك.ل.ستروس: يصعب استعمال التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية لأن موضوعها لا يقبل الاختزال إلى شيء، لذلك تظل العلوم الإنسانية تتأرجح بين التفسير والتنبؤ من جهة، والفعالية الذاتية للباحث من جهة أخرى.
- جواب 2: ف.دلتاي: تستعمل العلوم الإنسانية الفهم بدل التفسير، وطبيعتها تمنعها من قبول المنهج التجريبي لأن استيراده إليها من خارجها يعني تحويلها إلى شيء وطمس خصوصيتها وتميزها ببعدها الإنساني. يجب إبداع منهج ملائم للعلوم الإنسانية من العلوم الإنسانية ووفق احتياجاتها واحترام مميزاتها.
- إذن: لا يصلح التفسير ولا التنبؤ لغياب الضرورة والحتمية والثبات والتكرار مثلما هو الأمر في عالم الأشياء الطبيعية، ويحل الفهم كبديل يدل منذ المنطلق على تعامل الوعي مع الوعي كموضوع، ومع الذاتية كمكون موضوعي وليس ذاتيا. ("نفسر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية" يقول دلتاي)
المحور الثالث: نموذجية العلوم التجريبية
يمكن المقارنة بين موقفين متعارضين في هذا الصدد: موقف مؤيد لاتخاذ المنهج التجريبي كمنهج للعلوم الإنسانية مع بعض التعديلات الطفيفة التي تفرض نفسها، وموقف معارض لهذا الاختيار بحجة أن الإنسان يدرس ككل متكامل وأته كائن لا يمكن التعامل معه إلا من منطلق المعنى والقصد والقصدية والتأويل والشعور واللاشعور والأخلاق...
حسب "طولرا" و"وارنيي" تتوحد الذات بالموضوع في علوم الإنسان، ويصبح الملاحِظ ملاحَظا في نفس الوقت مما يدع مجالا كبيرا للشك في مصداقية النتائج المحصل عليها، لكن إذا تأملنا في ما يميز الفيزياء المعاصرة من تداخل بين الذات الباحثة والموضوع المبحوث بسبب عدم إمكانية اعتماد التجربة العلمية الكلاسيكية لطبيعة الموضوع اللامتناهي الصغر، وهو الأمر الذي لا يقلل من علمية النتائج المحصل عليها رغم تدخل الذات الباحثة، فإن تداخل الذات والموضوع في العلوم الإنسانية لا يصبح عائقا أمام العلمية، مادام هذا النموذج من العلاقة أصبح موجودا في العلوم التجريبية نفسها وهي النموذج المحتذى.
لكن ميرلوبونتي، يعارض هذا الموقف بشكل صارم معتمدا على أن الإنسان هو مصدر المعنى، وهو الوحيد في الكون المتميز بالتفرد والأصالة وأنه غيرقابل للاختزال إلى الخلايا المكونة لجسمه، أو إلى مكونات الإنسان الكلاسيكية مثل العقل والسياسة والاجتماع... ولست ظاهرة واعية منفصلة عن مكوناتها الأخرى مثل الغرائز والمكونات اللاعقلية واللاواعية.. . ليس بوسع أي علم أن يستغرق وحده دراسة الإنسان... لأنه كل لا يتجزأ، وهو المنبع لكل ما عداه وما يكونه، وباعتباره كذلك لا يمكن إعادة تشكيل حياته بعد وحصر ودراسة مكوناته...
نموذج علم الاجتماع)
تقديم: لقد سبق ، ضمن مسالة العلمية في العلوم الإنسانية ، التعرف على الإشكالات الإبيستمولوجية التـي تطرحها هذه العلوم في مختلف تخصصاتها : السيكولوجيا (علم النفس) ، و السوسيولوجيا ( علــم الإجتماع) و علم التاريخ: مشكلــــــــــة الموضوعية ، مشكلة الفهم والتفسير، ومشكلة نموذج العلمية، ولأجل الإقتراب من هذه الإنشغالات الإبـيستمولوجــية ، نتعرف عليها من خلال نموذج لأحد العلوم الإنسانيـة هو علم الإجتماع ( أو السوسيولوجيا) ، وهو نموذج لهذه العلــوم نظرا لما يطرحه من قضايا نظرية ومنهجية تتعلق بشروط إمكانية علمية هذه العلوم أو استحالتها، إذ أن عالم الإجتماع عندما يقدم علـى عمله، وهو دراسة المجتمع، يواجه عدة مشاكل ترجع كلها إلى طبيعة علاقة الذات الدارسةبالموضوع المدروس، وهي علاقة تتسم بالتعقيد والتداخل من جهة وبكونها علاقة واعـية تتدخل فيها الإرادة و القصد من جهــــــة أخرى ، بالإضافة إلى أن اقتران ميلاد هذا العلم (ق19) مع " أجيست كونت" الـذي استوحى الروح العلمية (الوضعية) والنموذج العلمي من العلوم الحقة ودعا إلى الإقتداء بها في دراسة الظواهر الإجتماعية ، قد أثارتساؤلات واختلافات ، حول صلاحية هذا الإقتداء ومدى ملاءمته لطبيعة هذه الظواهر، بين مدارس واتجاهات علم الإجتماع التي تعبـــرعن مواقف متباينة من المجتمع وكيفية دراسته والرهانات المعرفية والسياسية المستهدفة من البحث الإجتماعي . تمثل هذه المؤشرات صورة مركزة عن مسالة العلمية في علم الإجتماع ، حاول علماء الإجتماع الأوائل كما قلنا مثل “أوغست كونت”و”اميل دركايم” …جعل علم الإجتماع علما مستقلا متميزا من حيث الموضوع والمنهج ونظرياته العلمية، وأن يصبح علما مثل العلوم البحثة . لكن هدا المطلب تواجهه صعوبات كثيرة، أهمها إشكالية (الذاتية /الموضوعية )، و (الثبات /التغير)، و(الفكر /الواقع)…ولهدا قال “ادغار مران”:”إن ما هو علمي خاصيته أنه لايعكس الواقع ، بل يترجمه إلى نظريات متغيرة قابلة للتكذيب”.
أ- ريمن أرون:
قام “ريمن أرون” انطلاقا من كتابه “المجتمعات الصناعية” بانتقاد علماء الإجتماع بقوله:”إن علماء الإجتماع متيقنون بأن هده الظواهر، كالعائلة والطبقة الاجتماعية …لم يبرزها حتى الآن أي منهج ، وهده الظواهر هي ما يشكل الموضوع الخاص لعلم الإجتماع”. إن ما يميز علم الإجتماع هو صعوبة تحديده ، وبالرغم من المساعي الحثيثة لتحقيق دلك، فالسوسيولوجي”اميل دركايم”، وكما أشارالى دلك “ريمن أرون” في كتابه مراحل الفكر السوسيولوجي :”كي تكون هناك سوسيولوجيا في نظر ” دركايم”، يجب توفر شرطين:أن يكون لهدا العلم موضوع خاص به …وأن يكون هدا الموضوع قابلا للملاحظة والتفسير بطريقة مشابهة للطريقة التي نلاحظ ونفسر بها وقائع العلوم الأخرى “.
ب-اميل دركايم:
يعتبر “دركايم” أن علم الإجتماع علم متميز بموضوعاته ومجالاته، وأنه علم بإمكانه تحقيق الموضوعية في دراسته للظواهرالإجتماعية ، وهدا الأمر يتحقق شريطة اعتبار الظواهر الإجتماعية كأشياء تدرس بطريقة موضوعية مثلما تدرس العلوم الدقيقة موضوعاتها ، وبهدا الشأن قال:”إن الظواهر الإجتماعية تشكل أشياء ، ويجب أن تدرس كأشياء ،لأن كل ما يعطي لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء ..ولهدا ينبغي أن ندرس الظواهر الإجتماعية في ذاتها ، في انفصال تام عن الأفراد د الواعين ..ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا”
د – الموقف الماركسي :
مبدئيا يرفض ماركس العلم الجديد المسمى بعلم الاجتماع تحت ذريعة برجوازيته ،اد تأسس غاية في استشفاء المجتمع الصناعي . ومن هده الزاوية دعا إلى الفهم المادي الجدلي للتاريخ و الظواهر و الذي ليس حسبه إلا صراعا بين الطبقات الاجتماعية على أسس مادي اقتصادي ، إن الاقتصادي ادا هو المحدد الأول لكل الظروف المحيطة بالإنسان ومن هنا “السارق لا يولد سارقا” من هدا المعنى يمكن أن نستنتج أن الظواهر قابلة لدراسة و الفهم و الحل.
+تبنى ماكس فيبر Max Weber منهجا تفهميا في دراساته السوسيولوجية، حيث بين أن الترابطات والانتظامات المميزة للسلوك البشري تقبل فقط أن تكون موضوع تأويل تفهمي. فالسلوك الإنساني يتميز حسب السوسيولوجيا التفهمية عند ماكس فيبر بمقاصد ودلالات ذاتية يتعين إدراكها لدى الفاعل المعني من جهة، كما يتميز بخاصية البينذاتية نظرا لارتباطه بسلوك الغير من جهة أخرى. ولهذا لا يمكن معرفته كسلوك إلا بطريقة تفهمية تكشف عن الدلالات والمعاني المقصودة ذاتيا من طرف الفاعل.
الحقيقة
يجب التمييز بين الواقع والحقيقة. لأن الحقيقة مرتبطة بالحكم الصادر عن الإنسان. لذلك فتعدد الأحكام يطرح مسألة صحتها أو خطأها. وبالتالي تعدد معايير الحقيقة وقيمتها التي ترتبط بسلطتها وأهميتها في الصراعات الاجتماعية.
المحور الأول: الرأي والحقيقة:
الرأي هو الفكرة الشخصية التي لم نحصل عليها باستعمال منهج علمي أو فلسفي وهو معطى جاهز ومباشر تنتجه الحواس والتجارب الخام.
بالنسبة لغاستون باشلار: "يتعارض العلم مع الرأي. إن الرأي خاطئ على الدوام. وهو تفكير سيء بل لا يفكر البتة، فهو يترجم الحاجات إلى معارف. وبتعيين الأشياء حسب فائدتها، يمتنع عن معرفتها. لا يمكن تأسيس أي شيء على الرأي، بل ينبغي هدمه. فالرأي هو أول عائق يلزمنا تخطيه".
يعتبر باشلار الرأي عائقا ابستملوجيا ينبغي إحداث قطيعة معه، ويسمي هذه القطيعة بالقطيعة الابستمولوجية، أي التي تحدث على مستوى المعرفة. فالحقيقة تنتمي لمجال مختلف تماما حيث أنها تبنى اعتمادا على منهج علمي تتضافر فيه كل من التجربة والعقل ولا يترك فيه مجال للمعطيات الجاهزة أو الأفكار المسبقة أو كل ما يرتبط بالتجربة العامية.
أما ديكارت فيرى أنه من واجب كل إنسان يبحث عن الحقيقة أن يشك مرة واحدة في حياته في جميع معارفه بل أن يشك في كل شيء إلى أن يصل إلى ما لا يقبل الشك وهو البديهي العقلي المتميز بالوضوح والتمايز، أو الحس العقلي أو البداهة العقلية المتمثلة في الكوجيطو: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وتم استنتاج حقائق أخرى من هذا الحقيقة التي تعتبر أساسا ومنطلقا. وهكذا فجميع الأفكار التي كانت لنا قبل الشك تعتبر آراء، أما بعد الشك فتصبح أفكارا حقيقية ويقينية.
ويمكن الإشارة إلى موقف أفلاطون الذي يرى أن عالم الحس هو عالم الرأي، أما عالم المثل فهو عالم الحقيقة وأنهما يتعارضان ويتناقضان في كل شيء، وأن الفيلسوف وحده قادر على بلوغ عالم المثل عبر التذكر لأن المعرفة تذكر والجهل نسيان.
المحور الثاني: معايير الحقيقة:
بما أن الحقائق متعددة تبعا لتعدد المنظورات والمذاهب فلا بد من توفر معايير تميز الحقيقة عن الخطأ حسب المذهب المحدد.
ديكارت: معيار الحقيقة هو البداهة العقلية أو الحس العقلي اعتمادا على الشك المنهجي الذي يجب تمييزه عن الشك المذهبي. ويقدم نموج الكوجيطو مثالا على هذا المعيار لأنه يدل على عجز العقل والحواس عن بلوغ الحقيقة وعدم الثقة فيهما لوقوعهما في الخطأ.
سبينوزا: ونجد نفس الأمر تقريبا عند سبينوزا الذي يقول "أن من لديه فكرة صحيحة يعلم في نفس الوقت أن لديه فكرة صحيحة، ولا يمكن أن يشك في صدق معرفه" ويضيف "إن المعرفة هي معيار ذاتها وعيار الخطأ مثلما أنه بانكشاف النور ينقشع الظلام".
ليبنتز: ينتقد ليبنتز موقف ديكارت بقوله: "لقد اسكن ديكارت البداهة العقلية في فندق ونسي أن يمدنا بالعنوان".
ويتهم معيار ديكارت بالضعف لغموض مفهومي الوضوح والتمايز، ويقترح معيارا آخر استعمل منذ أرسطو والرياضيين وهو معيار البرهنة العقلية على أساس منطقي رياضي.
فوكو: معيار الحقيقة هو السلطة لأن "الحقيقة ليست خارج السلطة وليست بدون سلطة". بحيث نجد أن كل مجتمع له نظامه الخاص بإنتاج الحقيقة وسياسته الخاصة حول الحقيقة. ففي المجتمع الغربي على سبيل المثال نجد أن:
- الحقيقة السائدة هي الحقيقة العلمية دون غيرها.
- وأن السبب في الاهتمام بها هو اقتصادي وسياسي
- وأنه يتم نشرها واستهلاكها عبر أجهزة الإعلام والتربية.
- أنه تتم مراقبة إنتاج الحقيقة من طرف الدولة
- وأن الكل يعمل من أجل امتلاك الحقيقة لأنها سلطة.
إذن لا توجد معايير كونية وشاملة بل يجب البحث عن الحقيقة في كل مجتمع حسب أنظمته السياسية والاقتصادية.
المحور الثالث: قيمة الحقيقة:
1. قيمة الحقيقة هي المنفعة:
حسب الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس، ترتبط الحقيقة بالمنفعة. وهذا الارتباط ضروري لأن السؤال عما يميز الفكرة الصحيحة عن الفكرة الباطلة سؤال مشروع، إذ لا يجب أن تكون النتيجة هي نفسها حين نتبنى فكرة صحيحة وحين نتبنى فكرة خاطئة.
فالكرة الحقيقة لها امتيازات منها أنها هي التي لها مفعول في حياتنا وتترتب عنها نتائج تغير شيئا ما في حياتنا وهكذا يتضح أن قيمة الحقيقة تكمن في فعلها وفعاليتها ونفعها وفائدتها.
يقول وليم جيمس: "إن الحقيقي هو ما يفيد " .
2. قيمة الحقيقة تكمن في أخلاقيتها:
- الواجب الأخلاقي اللامشروط حسب كانط هو الذي يجعل من الإنسان كائنا أخلاقيا، ويعتمد على القاعدة التي تنظم تصرف الإنسان: "عليك أن تتصرف وكأنك تتصرف باسم الإنسانية جمعاء. عليك أن تتصرف بناء على أن ما تقوم به تجاه الآخرين هو ما تود أن يقوموا به تجاهك".
3. لا وجود لأية قيمة للحقيقة:
يرى نيتشه أن مصلحة الفرد في أن يعيش داخل الجماعة البشرية بطريقة سلمية يجعله يقبل بوجود ما يسمى حقيقة، أي ما يفيد ويمتع ويحفظ الحياة. أما المعرفة الخالصة وغير المثمرة فلا يهتم بها أحد.
فالحقيقة هي وهم مفيد، أي أن الحقائق هي أوهام ترسخت بفعل الاستعمال والمنفعة الناتجة عنها.
فأن يقول المرء الحقيقة معناه أن يردد ما يعتبره مجتمعه حقيقة.
يقول نيتشه: "إن الحقيقة تقتل، بل أكثر من ذلك إنها تقتل نفسها عندما تكتشف أن أساسها هو الخطأ".
Offrez au Monde le Reflet de Votre Image
Par respect de l'environnement, n'imprimez que si nécessaire.