adabsophie
  انجازات التلاميذ
 

انجازات التلاميذ مواضيع انجزها التلاميذ او اقتبسوها واقترحوا نشرها للاستئناس فشكرا وعذرا لمن لم نذكر اسمه ....

هل يمكن أن تتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض ؟

اندهش الإنسان أول الأمر من الوجود. و من الطبيعة وألغازها. فكان التحدي الأول الذي واجه هو محاولة فهم و تفسير الظواهر الطبيعية التي تحيط به. و على امتداد الرحلة العلمية استطاع كشف العديد من أسرار الطبيعية لدرجة السيطرة على معظمها. لكن بقدر ما اهتم الإنسان بالطبيعة، بقدر ما نسي نفسه، أو بالأحرى لم يلتفت لذاته إلا متأخرا. إي إلا بعدما بدأ يشعر أنه استطاع فهم و تفسير الظواهر الطبيعية التي تحيط به، و بدأت تراوده فكرة نقل هذا النموذج الناجح لتطبيقه على الإنسان . لقد أغرت الإنسان  النجاحات التي عرفها مجال العلوم الطبيعية فحاول الاستفادة منها لتحقيق انجازات مماثلة في العلوم الإنسانية. فتوالت الدعوات لتطبيق المناهج العلمية التجريبية و الصارمة التي أثبتت نجاعتها وتفوقها في المستوى الطبيعي على المستوى الإنساني.

هكذا إذن سيتحول الإنسان الذي كان على امتداد التاريخ ذات عارفة إلى موضوع للمعرفة، إذ سيتحول من دارس إلى مدروس، ومن كائن فوق طبيعي إلى جزء من الطبيعة، يخضع لقوانينها و نظمها و حتمياتها. وبدأ يؤمن بإمكانياته الوصول إلى معرف موضوعية بذاته و إلى فهمها و تفسيرها كما هو الشأن مع أيه ظاهرة طبيعية أخرى. فهل من السهل تحقيق ذلك؟ هل بالإمكان تحقيق معرفة علمية دقيقة بهذا الكائن الراغب، و المتخيل، و المتغير، و المعقد، و المتقلب، و المتداخل الأبعاد و الذي يسمى الإنسان؟

كيف يمكن إذن موضعة الظاهرة الإنسانية ؟ و هل يصح الحديث عن التفسير في العلوم الإنسانية أم أن وظيفتها تقتصر على فهم الظواهر لا تفسيرها؟ وهل تصلح المناهج العلمية التجريبية للتطبيق على العلوم الإنسانية أم أن هذه  الأخيرة عليها أن تجد مناهج خاصة بها؟

إن السؤال الذي بين أيدينا يندرج ضمن مجزوءة المعرفة وخصوا ضمن الباب المتعلق بمفهوم العلوم الإنسانية و ما تطرحه من إشكالات و تناقضات. فهل يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في التناقض؟ أول ما يجب تسجيله هو أن السؤال قابل أن نجيب عليه بالنفي أو الإيجاب أو برأي ثالث يتأرجح بينهما. صحيح أن الفلسفة تفكير نقدي، لكنها في ذات الوقت، تفكير عقلي منطقي ينبني على الفهم و المساءلة و التفكير قبل إصدار الأحكام، وحتى لا يظهر موضوعنا في صورة الأحكام القبلية و الجاهزة فلا بد أن يكتسي صيغة إنشاء، أي بناء عقليا متدرجا ينطلق من الفهم إلى النقد، مستثمرين بعض الأطروحات الفكرية و الفلسفية التي نعرفها.

إذا أزلنا الطابع الاستفهامي للسؤال سنحصل على العبارة التالية: يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض. الأمر الذي يستدعي منا تحليل مجموعة من المفاهيم التي يتضمنها هذا السؤال مع مناقشة ما يتضمنه من إشكالات، ونعتقد أن تسجيل هذه الخطوة الأولية سيساعدنا على تمثيل الخطوات المنهجية اللاحقة.

في الحقيقة عندما يتم التحدث عن علم ما فالشرط الأساسي هو الموضوعية، و الحال أن العلوم الإنسانية لم نستطيع تحقيق هذه الموضوعية نظرا لمجموعة من الاعتراضات و العقبات. كذلك فإنها علوم تعاني من ثلاث مشاكل تعتبر بمثابة عواقب تحول دون أن تتجه نحو العملية، وهي كالتالي: مشكلة موضعة الظاهر الإنسانية، و التأرجح بين التفسير و الفهم، وأخيرا مدى ملائمة المناهج التجريبية للعلوم الإنسانية وهذا ما يضعنا أمام مجموعة من التناقضات.

إن بناء نظرية عملية حول التجربة الإنسانية، يصدم بذلك التداخل بين الذات و الموضوع و الذي يشكل عائقا أمام تحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية. إن هذا التداخل يبرز تلك المفارقة الكبرى التي يعشيها كلل ممارس في العلوم الإنسانية فهو يعيش داخل المجتمع وفي نفس الوقت يطلب منه التموضع خارج كل صراعاته، فهو لا يستطيع الحياء حتى ولو رغب في ذلك.

يقول " دور كايم":" الواقعة الاجتماعية هي طريقة في الفعل ثابتة أولا و قادرة على ممارسة الإكراه و الإلزام على الفرد ثانيا، وهي ثابتة في المجتمع و مستقلة عن كل مظاهره الفردية." فحسب " دور كايم" إنها ظواهر موضوعية توجد خارج وعي الأفراد، و تتميز بالإلزام و الإكراه، مع العلم أن الشخص عندما يتمثل إليها فإنه لا يحس بذلك الإكراه، بل يحسن به عبر هذه العقوبات: القانون و العادات الاجتماعية، و النظام النقدي، و نظام الرموز المستعمل للتعبير عن الأفكار و المعتقدات الفردية و الدينية...

يتضح مما سبق، أن الظواهر الاجتماعية هي ظواهر تتميز بالإكراه و الإلزام الذي تقتصي مخالفتها عقوبات، وهي بذلك تتميز بثلاث خاصيات: الثبات ـ الاستقلالية و الخارجية و ممارسة الإلزام و الإكراه.

  أما "فوكو" فهو يرى أن صعوبة الظاهرة الإنسانية تعود بالدرجة الأولى إلى خصوصياتها، ذلك أن موضوعات العلوم الإنسانية تعود بالدرجة الأولى إلى خصوصياتها، ذلك أن موضوعات العلوم الإنسانية هي موضوعات متميزة ولها خصوصية، مما يجعل من الدراسة أمرا في غاية الصعوبة و ربما كان هذا هو السبب من وراء صيغة الجمع التي تأخذها عادة " العلوم الإنسانية".

صعوبة الموضعة تعود كذلك إلى عدم قابلية هذه العلوم للتحديد الدقيق و التكميم و التجريب و القياس و التدقيق، كما هو الحال في العلوم الحقة. يضاف إلى ذلك إشكال التداخل بين الذات و الموضوع ، إذ تكون الذات هي المجربة و الملاحظة على ذاتها مما يثير عدة إشكالات و تعقيدات فالباحث الاجتماعي مثلا، لا يمكنه أن يفصل عن موضوعه الذي سيقوم بدراسته، لأنه لن يستطيع فهمه دون النفاد إليه الأمر الذي يقتضي المشاركة ة الانخراط داخل الجماعة.

هكذا إذن تعتبر مشكلة موضعة الظاهرة الإنسانية إشكالية مركزية في علوم الإنسانية، وبهذا تتفرغ عنها مشاكل أخرى مثل صعوبة التجريب و الخضوع للقوانين الحتمية. فالباحث لا يمكن أن ينفصل عن موضوعه الذي سيقوم بدراسته، كما أن كل محاولة لاختزال الوحدة المتكاملة في الإنسان بتنشئته أو موضوعته الذي سيقوم بدراسته، كما أن كل محاولة لاختزال الوحدة المتكاملة في الإنسان بتنشئته أو موضوعته نفقده حقيقته، و بالتالي بدون تحقيق الموضوعية نسقط في أول تناقض للعلوم الإنسانية ، كل هذا يدفعنا إلى الحديث عن جانب آخر ألا وهو التفسير و الفهم في هذه العلوم. فهل يمكن تفسير العلوم الإنسانية كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أم يجب علينا فقط الاكتفاء بفهم الظواهر الإنسانية ؟ إن ما يزيد من تعقد الوضع الإبستمولوجي [المعرفي] للعلوم الإنسانية هو نأرجحها بين عملتي التفسير و التنبؤ. لكن أليس من الخطأ المقارنة بين العلوم الحقة و العلوم الإنسانية باعتبار موضوع هذه الأخيرة.

إن هذا الاختلاف و التمايز يفضي إلى منهج التفسير في العلم و منهج الفهم في العلوم الإنسانية.

وفي هذا السياق، يقول " دلتاي" : " نفسر الطبيعة، و نفهم الحياة النفسية" فحسب " دلتاي" منهج العلوم الطبيعية هو منهج تفسيري لأنه يكشف الأسباب و النتائج بدقة أما منهج العلوم الإنسانية  فهو منهج تفهمي يتعرف على الظواهر الإنسانية في خصوصيتها دون إخضاعها للمبادئ الموضوعية الصارمة و الحتمية المطلقة و ينتج عن ذلك كما يقو "دلتاي" : سنقرر بأن للعلوم الروحية[ الإنسانية] الحق في أن تبني منهجها. انطلاقا من موضوعها. هكذا إذن يطرح "دلتاي" المنهج التفهيمي في العلوم الإنسانية، فالظاهرة الإنسانية هي الظاهرة ذات الطابع الفرداني النسبي الذاتي و المتغير. وهي بالتالي لا تفسر كما تفسر أية ظاهرة طبيعية. وخلاصة القول أن العلوم الدقيقة هي علوم تفسيرية لأنها تنطلق من الجزء في اتجاه الكل. أما العلوم الروحية فهذه علوم تعتمد الفهم لأنها تتجه من الكل في اتجاه الجزء وهذا هو ممكن الفرق بين هذين النوعين من العلوم.

أما "سترواس" فهو يرى أن العلوم الإنسانية تحتل موقعا وسطا بين التفسير و التنبؤ، على عكس العلوم الدقيقة التي استطاعت أن تفصل بينهما بالرغم من أنهما كان من وراء التقدم الهائل لهذه العلوم. يقول "سترواس" : "لا يمكن أن نشك أن التقدم الذي حققته العلوم الدقيقة، كان بفضل ما ربحته من العمليتين أي التفسير و التنبؤ."

إلا أن تفسيراتها و تنبؤاتها تكونان دائما مجالاو عرضة للتصحيح و التجريب الدائمين. كما أن العلوم الدقيقة تتنبأ بظواهر ثم تفسيرها. كما تفسر ظواهر تتنبأ بها. ولعل خير مثال على ذلك بالنسبة للأولى علم الأرصاد الجوية، أما الثانية نظرية التطور عند "دارولين". على عكس العلوم الإنسانية، التي ليست دقيقة لا في تفسيراتها ولا في تنبؤاتها. لأنها تسير في طريق سيء لا يسمح لها لا بالتفسير ولا بالتنبؤ. و تكتفي اليوم بتفسيرات فضفاضة تقريبية تنقصها الدقة دائما... إن العلوم الإنسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا ولا تتنبأ بيقين تام.

وبالرغم من أن العلوم الإنسانية لا تنجز تفسيراتها ولا تنبؤاتها بنفس الدقة التي نجدها في مجال العلوم الدقيقة، لكنها رغم ذلك استطاعت أن تقدم نموذجا جديدا للمعرفة يحتل مكانين بين معرفة خالصة تقوم على التفسير و معرفة نافعة تقوم على التنبؤ.

هكذا فإن المعرفة العلمية التي تسعى إلى جعل عالم الإنسان عالما للملاحظة و التجريب و للتفسير و التنبؤ. فإنها معرفة تفرغه من معناه العام كعالم معيش. فظاهرة الإنسانية تجربة معيشية  يكون فيها العالم عالما من أجل الذات فسواء اعتبرنا أن العلوم الإنسانية تفسر الظواهر أو تفهمها، فإنها تظل محاولة لتكوين صورة عقلية عن هذا الواقع الإنساني المعقد بطبيعته.

وها هنا نسقط في التناقص الثاني لهذه العلوم. إذ كيف للعلوم الإنسانية أن تكون علوما وهي ليست دقيقة لا في تفسيراتها ولا تنبؤاتها؟

وهكذا يتبين لنا أن الرهان الحقيقي للعلوم الإنسانية هو نموذجية العلوم التجريبية. فإلى أي حد تصدق المناهج التجريبية للتطبيق على الإنسان؟

إن رغبة العلوم الإنسانية في تحقيق الموضوعية و حسم خلاف الفهم و التفسير يكشف رغبة صريحة في الاقتداء بمناهج العلوم الطبيعية. فهل يمكن تحقيق ذلك ؟ أليس من التناقض تطبيق العلوم التجريبية على الإنسان الذي يتميز بالوعي و الإرادة و الحرية ؟

لكن لماذا ننظر إلى التداخل بين الذات و الموضوع على أنه سلبي؟ و الحال أنه يجب اعتباره بمثابة نموذج يحتدى به. خصوصا و أن تدخل الذات في المعرفة بات واقعا إبستمولوجيا أكدته الفيزياء المعاصرة.

خصوصا و أن ستراوس يؤكد أن ثنائية البحث العلمي و القائمة على ثنائية الذات الملاحظة و الموضوع الملاحظ لا تقتصر فقط على العلوم الإنسانية بل تتعدى العلوم إلى الفيزياء المعاصرة و البيولوجيا.

إن معرفة الذات لذاتها و لمعالمها انظلاقا من تجربة العالم المعيش وهذا هو المهم في المعرفة أو الأهم في كل معرفة. إن الذات هي التي تمنح معنى للعالم و العلم.

ولمناقشة مسألة مدى نموذجية العلوم التجريبية، يمكننا استحضار النزعة الوضعية، حيث تأسست علوم الإنسان في بدايتها على النزعة الوضعية [الفلسفة الوضعية] التي تمجد المعرفة العلمية و تجعلها هي المعرفة الحقة و هي و كما يقول صاحبها"أوغست كون" : " إن الإنسان لا يستطيع الكشف عن طبائع الأشياء ولا عن أسبابها المباشرة، بل يستطيع فقط الكشف عن علاقتها و أسبابها" فالمعرفة الحقيقية هي المعرفة المبنية على الواقع و التجربة و أن نموذج العلوم التجريبية يمثل المثل الأعلى لليقين.

وهكذا نجد الفلسفة الوضعية تسعى إلى تعويض كل من التفسير اللاهوتي و الميتافيزيقي بالتفسير الوضعي الذي يقوم على قانون المراحل الثلاث[ المرحلة اللاهوتية، المرحلة الميتافيزيقية، المرحلة الوضعية]. فالإنسان من خلال هذا المنظور هو كائن مثل الكائنات الطبيعية من جهة قابليته للتحديد العلمي الصارم و نفس التوجه نجده عند عالك الاجتماع، عندما يقول :"يجب دراسة الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء".

أيضا عند رواد علم النفس التجريبي الذين يقولون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة فيزيولوجية تفسر كأية ظاهرة طبيعية .

وحتى مع المدرسة السلوكية "واطسن" حيث تقصي معرفة الإنسان لذاته و تعوض النفس بالسلوك، و الهدف من ذلك هو البحث عن علاقة بين الميراث و الاستجابات فإلى أي حد تصدق هذه التصورات القائلة بنموذجية العلوم التجريبية؟

أليس من التناقض تطبيق العلوم التجريبية على كائن عاقل حر له إرادة؟

هنا نتنقل إلى موقع آخر وهو موقف"ميرلوبونتي" حيث ر يتردد في إعلان موقفه الجذري من هذه المسألة، حيث يعتبر أن تحقيق معرفة موضوعية بالإنسان أمر غير ممكن، كما يرفض أية محاولة لتجزئ الإنسان و تجاهل تجربة المعيشية.

إن الإنسان في رأي " ميرلوننتي" كل لا يتجزأ، و أن أهم ما يميزه هو أنه يوجد كتجارب معيشة، يحياها الإنسان أولا، قبل أن يعبر عنها العلم ثانيا، فالمعرفة تقتضي الرجوع إلى العالم المعيش للإنسان وهنا تكمن استحالة تطبيق النموذج العلمي.

ويتضح مما سبق أن النقاش الإبستمولوجي المرتبط بالعلوم الإنسانية يفرز جملة من الإشكالات و التناقضات الإبستمولوجية، تتعلق بإمكانية علمية هذه و باستحالتها. فكان التأكيد على أهمية الذات باعتبارها شرطا ضروريا للمعرفة و بناء النظريات، كما ساهم هذا النقاش في إعادة التفكير في العلوم الحقة باعتبارها النموذج الوحيد للعملية.

وهكذا فبإمكان العلوم الإنسانية أن تقدم صور مغايرة لعلمية العلوم الطبيعية، وبعد هذه الأشواط يتأكد لنا أننا عندما نتحدث عن علوم إنسانية فإننا نسقط في تناقضات: كالتجريب على الإنسان، عدم تحقيق الموضوعية، التأرجح بين التفسير و الفهم، مدى ملائمة العلوم التجريبية أو العلوم المسماة علوم ما حقة للعلوم الإنسانية.

ختاما، إن معرفة الإنسان لذاته ما زالت في بدايتها و بين إبداع أصيلة و اعتمادا نماذج جاهزة، ما زالت المحاولات و الاجتهادات مستمرة، بالرغم ما تتولد عليها من نقشات و مجالات فكرية مهمة، تعتبر السبل الأمثلة لتطور سيرورة العلوم الإنسانية، كما لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته هذه الأخيرة في إنارة جوانب مظلمة كانت قريبة من الجانب الإنساني، كما لا يمكن إنكار الدور السلبي الذي لعبته في تعرية الإنسان و تشييئه، و إفقاده تميزه كذات لإرادة ووعي و حرية .

سيأتي اليوم الذي لن تشعر فيه بأي حرج في إدراجها ضمن العلوم الحقة؟ وربما سيأتي اليوم الذي سيتعرف فيه روادها على استحالة فك لغز هذا الكائن المسمى بالإنسان؟

 

*******

هل الدولة غاية في ذاتها أم مجرد وسيلة؟

 

 

الدولة تنظيم سياسي اجتماعي و قانوني يدل على مجموع إرادة الأفراد ينظم وجوده السياسي مجسد في هيئة تصهر على جميع هذه الإرادات تهدف تحقيق غاية مشتركة لجميع أفراد المجتمع إلى أسمى مؤسسة بشرية ومند ظهورها وهي تطرح تساؤلات وإشكالات وقد تناولها و بحت فيها فلاسفة و سياسيون ويبقى دائما السؤال المطروح هل الدولة غاية في ذاتها أم مجرد وسيلة؟و هناك تداخل كبير بين الغاية و الوسيلة ؟

 

فنجد مثلا عند هوبس أن اجتماع الناس أذى بهم إلى تشكيل المجتمع و ظهور الدولة بل هو نتيجة الصدفة و الاتفاق حيت يرى هوبس أن الوضع الطبيعي هو "حرب الكل ضد الكل " وان الإنسان اهتدى بعقله إلى الأنفع بالنسبة إليه هو التعاقد إذن هنا الدولة وسيلة وهي أمن الكل.

 

 وكذلك جون لوك يرى أن الدولة تسمى لتحقيق امن و سعادة المواطنين للمحافظة على الخيرات إذن الدولة وسيلة من اجل سلامة الحياة و الحرية و سلامة البدن .

 

عند اسبينوزا نجده يرى أن الغاية من الدولة هي تحديد الفرد و حماية حقوقه إذن نحن أمام جهاز سياسي قانوني له أهداف يسعى لتحقيقها أدن يمكننا القول حسب هذه الأطروحة أن الدولة وسيلة لتحقيق الأمن والسلام و حرية الناس.

 

 ونجد ميكيافيلي يقول الغاية تبرر الوسيلة وهو هنا في كتابه الأمير يبين أن الجهاز السياسي هو وسيلة لتحقيق الغاية المتمثلة في الأمير و حكم الدولة.

 

و مع  أشهر الفلاسفة الألمان هيجل نجده يرى إن الدولة تسمو على الأفراد والذين هم أعضاء فيها ’ إنهم يعيشون في مجتمع مدني يلبي حاجياتهم ومصالحهم الأسرة والمدرسة .....بينما الدولة في نظره هي كونية وعقلية أما حياة الناس في المجتمع فهي جزء من مسيرة هذه الفكرة وهيجل يرى أن الدولة غاية وبالأحرى لا يجب الخلط بين الدولة والمجتمع المدني.

 

إذا كانت الدولة وسيلة لتحقيق الأمن والسلام للإنسان  فالتاريخ يشهد أن الكثير من الزعماء جعلوها غاية , لكن عموما يبقى مفهوم الدولة بين الوسيلة والغايةلانه يتعلق بحياة الإنسان  فان كل ما يحيط وما يهمه يعرف تحولا وتطورا وجدالا فكريا مستمرا وهكذا فمفهوم الدولة كغاية أو وسيلة سيظل متأرجحا بحسب الظروف والأطروحات.

 


******************
هل نجد في سلطة الدولة ما يتعارض مع الحرية ؟

 

يبدوا لأول وهلة أن هناك تعارضا بين مفهومي السلطة و الحرية فإذا كانت سلطة الدولة تقتضي فرض الطاعة و لو باستعمال القوة فهل ذلك يتعارض مع حرية الإنسان ؟ أو بالعكس هل الإطار المناسب لممارسة حريته و التمتع بحقوقه الأساسية ؟ ما هي الحدود التى يجب أن تقف عندها السلطة حتى لا تتحول الى طغيان ؟ و ما هي ضمانات عدم تخطيها لتلك الحدود؟

موقف باكونين و ماركس " الدولة مؤسسة قمعية مسخرة لخدمة مصالح طبقية و أنشأتها الطبقة المهيمنة لضمان سيطرتها على المجتمع، و لذلك يجب القضاء عليها مباشرة أو مرحليا حتى يستعيد الإنسان كرامته، و ما عاناه الإنسان في مختلف الأنظمة السياسية دليل على أن الدولة كانت المقبرة التى تدفن فيها الحريات الفردية.

فهي تقف ضد التفتح الطبيعي للأفراد و تعيق حرياتهم و تمارس أبشع أنواع الاستغلال و القهر باعتبارها وجدت أفراد الطبقة المهيمنة.

إن هذا الموقف فيه كثير من التطرف فهو لا يعي عواقب ما يترتب عن زوال الدولة. إذ تصبح الفوضى هي السائدة و الغلبة للأقوى. وإذا عمت الفوضى فلا أحد يمارس حريته بعد ذلك، ثم إن هذا الموقف يصدق فقط على الأنظمة الاستبدادية التى عرفتها البشرية وما سادها من انحراف في استخدام السلطة من قبل الحكّام المتسلطين و لا يصدق على الدولة ذاتها كمؤسسة اجتماعية ثم عن تقدم الوعي السياسي أدى الى ظهور السلطة القائمة على القانون لا على الإرادة الفردية.

 

موقف "ابن خلدون" جون جاك روسو" و غيرهما يرون ان الدولة مؤسسة ضرورية لا غنى عنها فقيام المجتمعات و نشوء الحضارات لا يتم إلا في إطار النظام و هذا ما تجسده الدولة فالحريات و الحقوق لا تمارس إلا في إطار النظام و يبقى المشكل محصورا فقط في البحث عن الآليات التى تقيد استعمال السلطة و تحفظ الحريات للمواطن

 إن تاريخ الدولة يبين أنه كانت دوما أداة تسلط و لم تكن أبدا إطارا منظما للأفراد، ثم عن التجاوزات التى تقع اليوم هنا و هناك و في مختلف المجالات دليل على ان الدولة مازالت أداة قمع و إرهاب تركيب: إن الوعي الذي شهده الإنسان و المستوى الفكري الذي وصله مكنه من وضع آليات تقيد استعمال السلطة و تحولت علاقة المواطن بالدولة من علاقة رضوخ و استسلام الى إرادة الحكام الى علاقة امتثال للقانون الذي اشترك المواطن بطريقة أو بأخرى في وضعه و هكذا وجدت الدساتير التى تبين أشكال الدولة و نظام الحكم و ينظم السلطات و يحدد العلاقة بين أجهزة الدولة و يقر الحقوق الأساسية و وسائل حمايتها

 

و انطلاقا من هذه الآليات التى وضعها الإنسان يمكن القول انه لا تعارض بين سلطة الدولة و حرية الإنسان.  


********************

 

هل الدولة بحاجة الى أخلاق ؟      

                

ان الدولة في تنظيم أمورها و تدبير شؤونها تحتاج الى هيئة تشرف على تسيير و تنظيم حياة الأفراد داخل إطار اجتماعي و هو ما يعرف بالسلطة الحاكمة و هي تعمل على و ضع القوانين وتطلب من الأفراد الالتزام بها قصد تحقيق المصلحة العامة إلا أن هذه القوانين قد لا تقوى على ضبط العلاقات الاجتماعية ضبطا كاملا فتنظيم علاقة الفرد بالفرد من جهة و علاقة الفرد بالجماعة من جهة أخرى يجعل للأخلاق مكانة و دورا في التنظيم السياسي فهل الدولة تحتاج الأخلاق في نظام حكمها أم يكفيها ممارسة العمل السياسي ؟ بمعنى آخر هل يكفي ممارسة السياسة في الحكم دون ما حاجة الى الأخلاق ؟

ان الأنظمة الفردية التى سادت قديما لم تعرف أدنى اهتمام بالجانب الأخلاقي في الحكم بل اهتمت كثير بالقوة و لعل ذلك يظهر في نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز (فيلسوف مادي إنجليزي ) و نظرية القوة و الغلبة عند ابن خلدون (مفكر عربي ) في وصفه لكيفية قيام الدولة و سقوطها إلا أن ما ذهب إليه المفكر الإيطالي ماكيافللي يبعد الأخلاق عن الدولة كونه يعتبر أن القوة المحركة للتاريخ هي المصلحة المادية و السلطة و يرى في مؤلفه الرئيسي " الأمير" أن الدولة التى تقوم على الأخلاق و الدين تنهار بسرعة فالمهم بالنسبة للحاكم هو تحقيق الغاية المنشودة و هي قوة الدولة و سيطرتها بأية وسيلة كانت " الغاية تبرر الوسيلة " حيث كان يعتبر من المسموح به استخدام كل الوسائل في الصراع السياسي مبررا بذلك القسوة و الوحشية في صراع الحكام على السلطة كما يرى أن فساد الدولة و تدهور العمل السياسي يعود الى تدخل الأخلاق و الدين لذلك يفصل بين السياسة و الأخلاق لكن التاريخ يشهد ان مجمل الأنظمة التى قامت على القوة و الأخلاق و تخلت عن الأخلاق و تحقيق القيم في الحكم كانت نهايتها بالفشل

لقد أمن بعض الفلاسفة منذ القديم بضرورة إدخال الأخلاق في العمل السياسي فقد نظر أرسطو(فيلسوف يوناني) الى علم الأخلاق على أنه علم عملي هدفه تنظيم الحياة الإنسانية بتحديد ما يجب فعله و ما يجب تركه و هذا لا يتحقق إلا بمساندة القائمين على زمام الحكم باعتبار أن الكثير من الناس لا يتجنبون الشر إلا خوفا من العقاب و لذلك فقد حدد أرسطو غاية الإنسان من الحياة في مستهل كتابه " الأخلاق الى نيقوماخوس " على أنها تحقيق " الخير الأعظم " و بدون معرفته و الوقوف عليه لا نستطيع أن نوجه الحياة، بينما في العصر الحديث ربط ايمانويل كانط (فيلسوف ألماني ) السياسة بالأخلاق ربطا محكما و بين على عكس ماكيافللي أن الغاية من وجود الدولة هو مساعدة الإنسان و تحسين ظروف حياته و جعل من السياسة وسيلة لتحقيق غاياتها و هي خدمة الفرد حيث يقول " يجب ان يحاط كل إنسان بالاحترام التام كونه غاية مطلقة في ذاته " و قد عمل كانط من خلال كتابه " مشروع السلام الدائم " على أن الحياة السياسية داخل المجتمع الواحد و خارجه يجب ان تقوم على العدل و المساواة و قد كان لكتابه تأثير على الأنظمة الحاكمة في أوربا و قد جاء في المادة الأولى من لائحة حقوق الإنسان ( يولد الناس جميعا أحرارا متساوين في الكرامة و الحقوق... ) وهي قيم أخلاقية يعمل المجتمع الدولي على تحقيقها لكن الحياة الواقعية التى يعيشها الإنسان و تعيشها الدول لا تقوم على مبادئ ثابتة بل ممتلئة بالحالات الخاصة التى لا تجهل الإنسان يرقي الى هذه المرتبة من الكمال التى يعمل فيها أخيه الإنسان على انه غاية في ذاته

الإنسان مدني بالطبع لهذا كان لابد أن يعيش الإنسان في جماعة و أن تكون له مع هذه الجماعة مقتضيات الحياة السعيدة ومن هنا كان قيام المجتمع بحاجة الى السياسة لتضع نوع الحكم الملائم له و بحاجة الى الأخلاق لتنظيم علاقة الفرد بجماعته و بغيره من الأفراد

 

ان الدولة في حاجة ماسة إلى الأخلاق و حتى الدول العلمانية التى تفصل الدين عن الدولة تتبنى الكثير من القواعد الأخلاقية في أنظمة حكمها فالأخلاق ما هي إلا قانون في جانبه العملي     

********************

الامتحان الوطني الموحد لمادة الفلسفة

 

الإنجاز الأول :

 

المــوضــوع

إن المعيار الغالب للحكم على أن الشخص هو هو. كما يرى الحس العام. هو استمرارية الجسد المادية عبر الزمن. وهو المعيار نفسه الذي نستخدمه للحكم على أن الدرجات الهوائية أو غيرها هي نفسها دون سواها .

أما إذا تحدثنا بخلاف ذلك. فإن حديثنا سيكون على سبيل الاستعارة [ كأن أقول مثلا |أنا إنسان جديد]، فلو صح هذا القول لما كان بوسعي التفوه به. و حقيقة أننا نشعر أن هويتنا الجسدية عبر الزمن أمر معقد و أنها تتأكد من خلال المعرفة الداخلية بماضينا التي تأتي بها الذاكرة. يجب ألا يثير دهشتنا على الإطلاق كون الذاكرة نفسها تتصل بالضرورة بأدمغتنا و بأجسادنا. و إذا كانت ذكرى الماضي قد سببها ما حدث لنا. أي ما حدث لأجسادنا و أدمغتنا. فمن غير المدهش أن استمرارية هذه الأجساد عبر الزمن يجب في بعض الأحيان على الأقل. أن يتأكد من خلال معيار الذاكرة.

 

حلل النص و ناقشه

الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين لجهة الدار البيضاء الكبرى

الثانوية التأهيلية المنارة الخصوصية

 

يتأطر هذا النص ضمن مجزوءة الوضع البشري. و يعالج مفهوم الشخص و الهوية الشخصية.فالشخص هو الذات المفكرة و الواعية. الحرة في تصرفاتها و المستقلة في إرادتها و المسؤولة قانونيا و أخلاقيا. و يمتلك كل شخص هوية خاصة به و تسمح له بالتميز عن الآخرين. حيث يشعر بأنه الشخص ذاته في مختلف مراحل حياته، أي أن له أنا يرجع له أفعاله و أحاسيسه. فما هي المقومات التي من شأنها تحديد هوية الشخص ؟ هل يمكن اختزالها في محددات جسدية خارجية أم داخلية؟ وهل القول بوحدة الهوية الشخصية يهني ثبات الأنا أم تغيره؟

يرى صاحب النص أن الهوية الشخصية تقوم على استمرارية الجسد عبر الزمن المرتبطة بالذاكرة. وقد أكد على وجود علاقة بين الجسد و الذاكرة في تحديدها لهوية الشخص . فالجسد هو معيار الحكم على ثبات الهوية الشخصية لدى الإنسان عبر الزمن. و أي معيار خارج ذلك هو مجرد استعارة لا غير . و بما أن الهوية الجسدية معقدة فإن الذاكرة تتدخل لتأكيدها من خلال المعرفة الداخلية بماضينا. و الذاكرة هي الأخرى لا يمكن فصلها عن الجسد أو التفكير. و هذه العلاقة المتبادلة بين هذين العنصرين هي التي تمنح كل شخص هوية تميزه عن غيره.

ولتعزيز أطروحته و تدعيمها، اتبع صاحب النص خطة حجاجية محكمة، منطلقا بتأكيده على أن معيار الهوية الشخصية هو استمرارية الجسد المادي عبر الزمن. وقد وضح فكرته بإعطاء مثال الدراجات الهوائية ليبين أن مظهرها الخارجي هو الذي يميزها عن سواها و يسمح لنا بالقول أنها دراجة هوائية. بعد ذلك انتقل للاستدلال على أن أي حديث خارج هذا المعيار الخارجي هو من قبيل الاستعارة فقط. وقد وضح ذلك بتقديمه لمثال قول الإنسان" أنه إنسان جديد" ليؤكد على أن هذا التجديد أو التغيير الذي يشير له لا وجود له في الواقع. إذ لو كان ذلك صحيحا لما بقي شيء في داخله يخبره بأنه تغير. ثم انتقل لعرض أطروحته التي مفادها أن أساس الهوية الشخصية هو استمرارية الجسد عبر الزمن و الذي يستند في ذلك إلى الذاكرة التي يتصل بنفسها بالجسد الهوية الشخصية هو استمرارية الجسد عبر الزمن و الذي يستند في ذلك إلى الذاكرة التي تتصل بنفسها بالجسد الخارجي و العالم الباطني. وفي الأخير استدل على أن استمرارية الأجساد عبر الزمن يتأكد من خلال معيار الذاكرة.

يمكن القول أن صاحب النص يختزل هوية الشخص في استمرارية جسده عبر الزمن وهذا الأخير يعود إلى ذاته باستمرار بفضل وعيه الداخلي تجسده الذاكرة .

في نفس السياق أكد "جون لوك" على أن هوية الشخص متجذرة في الزمن. وأن الشخص يدرك بأنه الشخص ذاته في أزمنة و أمكنة مختلفة، غير أنه ركز في ذلك على الوعي بأفعاله و إدراكه. ففي نظره هوية الشخص تتأسس على الشعور الذي تخلقه لديه أفعاله و بما أن الوعي يرافق الفكر باستمرار. هذا ما يجعل كل واحد منا يطلق على ذاته اسم "أنا" ليميزها عن باقي الذوات. هذا التصور التجريبي يركز على معطيات الحواس. وإضافة إلى تركيزه على الوعي بالأفعال و إدراكها. ركز أيضا مثل صاحب النص على الذاكرة. نظرا لكونها امتداد للوعي في الماضي.

غير أن "سيغموند فرويد" بوصفه عالما نفسيا يقدم تصورا ديناميا للهوية الشخصية مختلفا عن التصور الفلسفي لصاحب النص. فهو يرى أنها تحتاج لعدة القوى: الأنا، الأنا الأعلى، الهو و متطلبات الواقع. و تربط بين هذه العناصر علاقة تفاعلية. إذ يصدر اللاشعور مجموعة من الشهوات و الرغبات و الميولات يطلب الأنا تحقيقها دون الأخذ بعين الاعتبار بالضوابط الاجتماعية. فيحاول الأنا التوفيق بين تلك الأهواء و متطلبات الواقع و أوامر الأنا الأعلى الذي يمثل الجانب الأخلاقي الذي يمارس الرقابة على سلوكاتنا، إذ يأمر الأنا بقمع كل رغبة تتنافى مع الواقع. هذا التفاعل يدل على وحدة الهوية الشخصية بالرغم من عدم ثبات الأنا، فهذا الأخير يتغير بحسب ما يكتسبه من العالم الخارجي.

 في المقابل ذلك و على النقيض من الموقف الذي تبناه صاحب النص، "شوبنهار" يحدد الشخصية في الإرادة، أي الإرادة للحياة. فهذه الأخيرة تبقى ثابتة. و بالرغم من التغيرات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، إلا أن شيئا يبقى فيه لا يتغير هو أساس و نواة وجوده الذي لا يتأثر بالزمن. وهذا الشيء لا يتمثل في الشعور المرتبط بالذاكرة، فأحداث الماضي يعتريها النسيان، و الذاكرة معرضة للتلف بسبب المرض أو الشيخوخة. لذلك فحسب "شوبنهاور" أساس الهوية الشخصية هو الإرادة التي تمثل نواة وجودنا و الذات الحقيقية المحركة لو عينا و ذاتنا العارفة. كما أكد "ديكارت" هو الآخر على أن هوية الشخص لا تتحدد في معيار خارجي جسدي على عكس صاحب النص. وقد أكد على التفكير كخاصية جوهرية في الإنسان وصفة من الصفات التي يتوقف عليها وجوده. إذ يقول" أنا موجود ما دمت أفكر فقد يحصل أني متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود بتاتا." وقد توصل إلى هذه الحقيقة بفضل الشك المنهجي وقد أكد على تعدد أفعال الأنا كالشك و التخيل و الإثبات و النفي...

من هنا نستخلص أن مسألة الهوية الشخصية تميزت بالاختلاف. فقد تكون الأنا قائمة على الوحدة و التطابق و قد تكون متغيرة بتغير الشخص نفسه. و لكن الأكيد أنها لا توجد في عنصر واحد. بل تكمن في جميع هذه العناصر : الجسد، الذاكرة، الشعور، التفكير، الطبع...و المهم هو أن يكون الشخص بامتلاكه هذه الهوية قيمة، وأن يكون وجوده ذا أي قيمة تعلى ولا يعلى عليه بين باقي الكائنات.

 

 

 

 

 

الامتحان الوطني الموحد لمادة الفلسفة

الشعبة العلمية ــ جميع المسالك

 

الإنجاز الثاني:

 

الموضوع

إن المعيار الغالب للحكم على أن الشخص هو هو. كما يرى الحس العام. هو استمرارية الجسد المادية عبر الزمن. وهو المعيار نفسه الذي نستخدمه للحكم على أن الدرجات الهوائية أو غيرها هي نفسها دون سواها .

أما إذا تحدثنا بخلاف ذلك. فإن حديثنا سيكون على سبيل الاستعارة [ كأن أقول مثلا |أنا إنسان جديد]، فلو صح هذا القول لما كان بوسعي التفوه به. و حقيقة أننا نشعر أن هويتنا الجسدية عبر الزمن أمر معقد و أنها تتأكد من خلال المعرفة الداخلية بماضينا التي تأتي بها الذاكرة. يجب ألا يثير دهشتنا على الإطلاق كون الذاكرة نفسها تتصل بالضرورة بأدمغتنا و بأجسادنا. و إذا كانت ذكرى الماضي قد سببها ما حدث لنا. أي ما حدث لأجسادنا و أدمغتنا. فمن غير المدهش أن استمرارية هذه الأجساد عبر الزمن يجب في بعض الأحيان على الأقل. أن يتأكد من خلال معيار الذاكرة.

 

الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين لجهة الغرب اشراردة بني احسين

الثانوية التأهيلية محمد الخامس

 

يثير هذا النص الذي بين أيدينا موضوعا فلسفيا غنيا و معقدا أثار جدل العديد من الفلاسفة و النقاد حيث يعالج بشكل عام موضوع الوضع البشري الذي يعد مجالا واسعا تتضارب فيه الآراء. فهو يعالج وضعية الإنسان في الوجود وهذا الإشكال ليس كما يبدو سهلا بل على العكس من ذلك فهو مجال صعبة الدراسة فيه. فهو لا يكتفي بدراسة الشخص كشخص واحد، بل في إطار جماعة يوجد فيها مع آخرين أغيار وفي إطار علاقة تحددهم حيث أن هذه العلاقة يشوبها العديد من الغموض. فمن الممكن أن تتأسس على الحب و الإخاء كما يمكن أن تتأسس على الصراع و العداء. وهذا النص يؤسس بشكل خاص لمفهوم الشخص و تحديدا لمفهوم الهوية الشخصية باعتبارها المحدد الأساسي الذي يتيح إمكانية طرح التساؤل التالي : كيف تتحدد الهوية الشخصية ؟

هذا السؤال الواسع تشعب منه عدة أسئلة فرعية نذكر من أهمها:

1ـ هل تتحدد الهوية الشخصية عن طريق الذاكرة ؟

إذ كان نعم فكيف يتم ذلك ؟

2ـ ألا يمكن اعتبار أن هناك أشياء أخرى تحدد هذه الهوية .

3ـ هل هذه الهوية الشخصية ثابتة أم متغيرة؟

عند بداية تحليلينا للنص الذي بين أيدينا. يتبين بأن صاحب النص يدعم فكرة أن المعيار الأساسي للحكم على الشخص هو هو يتمثل في استمرارية الجسد المادية عبر الزمن. فهو بهذا القول يصرح و بشكل علني عن طرحه و يبدأ بتفسيره و لكنه أولا يعطي مثالا من خلاله يريد تأكيد طرحه. حيث أعطى مثالا واضحا أشد الوضوح هدفه من ذلك هو أن يبين بأن المعيار الذي جعلنا نقول بأن هذا الشيء هو هذا أو ذاك هو نفس المعيار الذي سيمكننا من معرفتنا لذواتنا كما أنه يؤكد على أن أي طرح آخر يعد خاطئا و يعطي مثالا بقوله [كأن أقول مثلا أنا إنسان جديد] وهذا ليس منطقيا فالإنسان هو الإنسان لا يتجدد ولا يتغير، يتغير جسده و تتغير ملامحه و أفكاره لكن هويته تبقى ثابتة مع مرور الزمن، ثم يعود ليصرح من جديد و بشكل واضح بطرحه القائم على أساس أن الهوية الشخصية تتحدد بواسطة الذاكرة، حيث أن هذه الأخيرة هي من توفر نلك المعرفة الداخلية التي تربطنا بالماضي فالذاكرة هي من تخول لنا تذكر الأشياء و بالتالي معرفتها و تحديدها. كما أنه يضيف إلى ذلك أن هذه الذاكرة ليست وحدها من تؤسس للمعيار الذي يساعدنا على معرفة الأشياء و معرفة ذواتنا بل يضيف إليها كلا من العقل و الجسد باعتبار هاذين الأخيرين يرتبطان أو بالأحرى يتصلان بالذاكرة. حيث يمكن أن نعتبرهم كخلية موحدة تشارك و تتضامن لتحقيق هدف معين ألا وهو المعرفة المؤكدة للأشياء ومن تم لذواتنا حيث أن ذكرى شيء من الماضي تتعلق بشيء حدث لأجسادنا أو لأدمغتنا مما يؤكد الترابط التوثيق بين الذاكرة و العقل و الجسد. من هذا يتبين بأنه لكي تكون هناك استمرارية للأجساد يجب في بعض الأحيان أن يتأكد على الأقل من خلال الذاكرة. فلا يمكن اعتبار إنسان بلا ذاكرة فذلك سيكون جسدا فقط جسدا به روح لكنه لا يستطيع معرفة الآخرين فكيف بالأحرى سيستطيع معرفة نفسه و تأكيد شخصيته و هويته؟

من خلال هذا يتبين بأن أطروحة صلب النص أطروحة فلسفية واضحة تتأسس على كون أن الذاكرة هي المحدد و المؤسس الضروري للهوية الشخصية في اتصالها بالضرورة بأدمغتنا و أجسادنا. ففي غياب الذاكرة تغيب الهوية الشخصية و بالتالي يغيب الفرد داخل المجتمع فيصبح خاليا من كل ما من شأنه أن يحدده.

واعتمد صاحب النص لتأكيد أطروحته على بنية حجاجية منطقية و مترابطة حيث استهل نصه بطرح أطروحته ثم سرعان ما بدأ بتفسيرها وشرحها واعتمد في ذلك على إعطاء بعض الأمثلة الواضحة لتسهيل الفهم و الاستيعاب كما أنه تدرج في شرح أطروحته حتى تظهر واضحة للجميع.

حسب صاحب النص تتأسس الهوية الشخصية و تتحدد على أساس الذاكرة في ارتباطها بالجسد و العقل.فإلى أي حد يمكن القول بهذا الطرح ؟ ألا يمكن القول بأن هناك أشياء أخرى تحدد الهوية الشخصية كالعقل، الإرادة، الشعور الوعي. ألا يمكن أن تتحدد الهوية الشخصية باجتماع كل هذه المقومات أن بعضها؟ هذه الأسئلة تحيلنا إلى استحضار مواقف بعض الفلاسفة.

يمكن القول أن هناك بعض المواقف المؤثرة التي تفيد التبسيط لإمكانية معالجة هذا الإشكال، نذكر كمثال الفيلسوف "ديكارت". فهذا الفيلسوف الذي ينتمي إلى التصور العقلاني يرى بأن المحدد الأساسي للهوية الشخصية يتمثل في العقل باعتباره الشيء الوحيد الثابت اللامتغير في الشخص، الشيء الذي من خلاله يستطيع الشخص إثبات وجوده وذاته ومن تم هويته و شخصيته وذلك انطلاقا من أفعال الشك التي بواسطتها يستطيع الإنسان إثبات ذاته و العمل بمبدأ الكوجيطو "أنا أفكر أنا موجود". فبتفكيري النابع من عقلي وحده الغير مرتبط بالأشياء الحسية الملموسة أستطيع إثبات وجودي و أناتي. حيث أن "ديكارت" لا يؤمن بأي شيء قابل للتجديد و التغير و خصوصا بالأشياء الحسية ففي نظره هي أشياء خادعة و كاذبة. من هنا يتبين بأن "ديكارت" لا يوافق صاحب النص في كون الذاكرة يمكن أن تحدد الهوية الشخصية لكننا يمكن أن نعتبر بأنه مؤيد لصاحب النص من ناحية العقل و من أهميته في تحديد الهوية الشخصية.

هذا فيما يخص "ديكارت" أما بالنسبة " لشوبنهاور" فهو يتوافق مع "ديكارت" في كون أن محدد الهوية الشخصية يجب أن يكون شيئا ثابتا غير قابل للتجديد، لكنهما على العكس من ذلك هما متعارضان بالنسبة لتحديد هذا الشيء.فإن كان بالنسبة "لديكارت" العقل هو ما يحدد الهوية الشخصية فعلى العكس من ذلك يرى "شوبنهاور" بأن المؤسس الوحيد و الضروري للهوية الشخصية يتمثل في الإرادة. إرادة الحياة و البقاء. فإن سألنا أي شخص كيفما كان عما هو الشيء الثابت فيه فسيقول إرادة الحياة و البقاء على الوجود هي دوما حلمه الذي لا يتغير بتغير الزمان و المكان فالإنسان بطبعه يميل للبقاء. وعليه فإن "سوبنهاور" يجد بأن الذاكرة لا يمكن اعتبارها شيئا محددا للهوية الشخصية فهذه الذاكرة قد يصيبها التلف و النسيان فبمجرد إصابة الشخص بحادثة أو مرض يمكن أن يفقد ذاكرته أو بالأحرى سيفقد هويته إذا ما اعتبرنا أنها المحدد للهوية. فكيف يمكن أن نربط مصير وجودنا بشيء يمكن أن نفقده بمجرد إصابتنا بحادثة كما يمكن أن تكون الحادثة هي إصابتنا بقطعة حجر من هنا يتبين بأن "شوبنهاور" لا يتفق مع صاحب النص في كون أن الذاكرة هي تحدد الهوية الشخصية للأفراد.

بين هذا و ذالك نجد أن هناك بعض الفلاسفة الذين ربطوا مصير الهوية الشخصية بالإحساس و الشعور ثم بالذاكرة و الوعي. فحسب الفيلسوف التجريبي "جون لوك " ترتبط الهوية الشخصية بكل ما هو حسي ملموس. فهذا الفيلسوف المنتمي للتصور التجريبي يرى بأن الإحساس و الشعور هما المحددان الأساسيان للهوية الشخصية. فعن طريقهما يمكن أن نعرف ذواتنا معرفة كلية مطلقة. فهذا الإحساس و الشعور يعد وعيا كليا بوجودنا من هنا يمكن أن نؤكد أنه حسب "جون لوك" : الشعور و الإحساس المصاحبان للوعي يحددان هوية الشخص كما لا ينفي دور الذاكرة في تحديد الهوية الشخصية فهو يعتبرها امتدادا للشعور في الزمان و بهذا يمكن اعتبارخ مؤيدا لصاحب النص من هذه الناحية فبالنسبة إليه الذاكرة تحيلنا على أساس و مشاعر كانت لدينا في الماضي و بواسطة الذاكرة نستطيع الاحتفاظ بها.

إذا كانت الذاكرة و الشعور هما المحددان للهوية حسب "جون لوك" ألا يمكن أن نعتبر الطبع أيضا محددا ومؤسسا لبناء الهوية الشخصية للأفراد ؟ حسب فلسفة "لاشوليي" نجد بأنه يؤكد على ضرورة الطبع و الذاكرة لتحديد الهوية الشخصية فطبعنا بالأمس هو نفس طبعنا اليوم لا يتغير مع تغير الزمان و يساعده على ذلك الذاكرة. فبوجودها نستطيع أن نضمن ثبات طبعنا وإذا ضمنا ثبات طبعنا ضمنا معرفتنا لذواتنا معرفة دائمة لا متغيرة.

بعد التطرق إلى مواقف هؤلاء الفلاسفة يتبين بأن هذا الإشكال عميق جدا تتضارب فيه الآراء من فيلسوف لآخر حيث أن هناك من يرى بأن الهوية الشخصية ثابتة تتمثل أو بالأحرى تتأسس على العقل أو الإرادة و هناك من يرى بأن الهوية تعتمد على شيء متغير كالشعور و الوعي و الذاكرة و الطبع .

صفوة القول إن الإشكال الذي بين أيدينا و الذي يتعلق بالهوية الشخصية و المعايير المعتمدة لتحديدها هو عبارة عن قضية من بين القضايا الفلسفية و الفكرية الشائكة التي أثارت جدل الكثير من الأشخاص و التي جعلت الأرضية خصبة أمام فلاسفة لإبراز آرائهم و تأكيدها.

من هنا يبرز جليا كما أنه من الواضح أن الهوية الشخصية تعتمد إما على شيء ثابت كالعقل و الإرادة أو على شيء متغير كالشعور و الطبع فإن كانت تعتمد على الشيء الأول أي ثابت فإنها لا تعتمد على شيء متغير.

    

 

 

 

 

 

 

الامتحان الوطني الموحد لمادة الفلسفة

ـ جميع المسالك

 

الإنجاز الثالث :

المــوضــوع

" لكي يكون المجرب جديرا بهذه الصفة، عليه أن يكون منظرا و ممارسا في الوقت نفسه... فاليد الماهرة التي لا يوجهها عقل هي أداة عمياء، و العقل دون اليد التي تنجز يظل عاجزا"

 

الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين لجهة تازة الحسيمة تاونات

الثانوية التأهيلية البادسي

 

تعتبر المعرفة نشاطا إنسانيا. لأن الإنسان هو الذي ينتجها ز ذلك من خلال علاقته بالطبيعة و المحيط الذي يعيش فيه، فالإنسان يحاول دائما فك الغموض على كل ما يحيط به و السيطرة على كل ما يشكل بالنسبة له أمرا مبهما، و تختلف المعارف باختلاف المجالات التي تنتمي إليها حيث نجد معارف دينية، فلسفية، أدبية،علمية...

بالإضافة إلى أنها تختلف من حيث درجات الصعوبة. ذلك أننا نجد معارف بسيطة و أخرى معقدة و صعبة، وقد نهج الإنسان طرق عديدة باعتباره كائنا فضوليا و محبا للاستطلاع و المعرفة، للتخلص من الإبهام و الغموض الذي يحيط بالطبيعة التي يعيش فيه، فقد اعتمد النظرية باعتبارها تعتمد على العقل و كل ما ينتجه، بالإضافة إلى التجربة باعتبارها مجموعة من الخطوات المنهجية التي تساعده على إنتاج المعارف، و تشكل المعارف العلمية محور اهتمام مجزوءة المعرفة التي تطرقت إلى مجموعة الطرق التي اعتمدها الإنسان على مر العصور لإنتاج هذا النوع من المعارف، وذلك في إطار مفهوم النظرية و التجربة. فقد حاول الفلاسفة في إطار مجزوءة المعرفة الإلمام بمختلف المناهج المتبعة من أجل الوصول إلى المعرفة العلمية.وهكذا نجد أن مجزوءة المعرفة و تحديدا مفهوم النظرية و التجربة قد اهتمت بعدة إشكالات تتمحور حول المعرفة العلمية، فعجز العقل في بعض الأحيان عن بلوغ المعرفة العلمية، وهو الإشكال الذي تعالجه القولة المطروحة، فكيف يمكن اعتبار العقل و التجربة معا أساسا للمعرفة العلمية ؟ ألا يمكن الإقرار بأحادية مصدر المعرفة العلمية ؟

في ظل مقاربته للإشكال المطروح يعتبر صاحب القولة أن المعرفة العلمية تقوم على العقل و التجربة معا، ذلك أن صفة المجرب لا يمكن أن تمنح لشخص ما إلا إذا ألم بالجانبين معا النظري و التطبيقي، فصاحب القولة يصف التجربة التي لا يوجهها العقل بأنها تجربة عمياء أي أن المعرفة التي ستتوصل إليها هي معرفة ناقصة. بالإضافة إلى أن العقل دون التجربة يظل عاجزا عن الإقناع. فالعقل و التجربة متكاملان وكل موضوع في مجال العلم يقتضي دراسته من زاويتين: العقل و التجربة، فالعقل في حاجة إلى براهين ملموسة ووقائع ملاحظة يكمل بها المعرفة المراد بلوغها و يجعلها أكثر غنى. و بالمقابل فإن التجربة أيضا تحتاج للعقل من أجل توجهيها و منحها صورة تنظيمية. فإذا تطرقنا لخطوات المنهج التجريبي نجد أنه يشتمل على خطوة الفرضية التي تجسد تأملا عقليا خالصا. هكذا فلا يمكن الفصل بين العقل و التجربة ذلك أن كل منهما في حاجة للآخر من أجل إنتاج معرفة علمية متكاملة، فالعلم باعتباره مجموعة من البراهين و القواعد وأيضا مجموعة من الوقائع و الدلائل الملموسة يجعل من كل موضوع ينتمي إليه موضوعا قائما على كل ما تقدم لنا تلك القواعد و تلك الوقائع أي أنه في حاجة للعقل و التجربة. فلا وجود لتجريبية خالصة ولا لعقلانية محضة. فإنتاج المعرفة العلمية يتطلب انفتاحا عقليا للتجارب، ولا يجب الاقتصار على جانب واحد فقط، وفي ظل ذلك يمكننا الاستناد على مثال علمي يتمثل في مثال Le Verrier وهو عالم لاحظ اضطرابات في كوكب زحل فافترض أن هناك كوكبا آخر يؤثر عليه حيث حدد حجمه ووزنه و مسافته عن زحل وسماه نبتون و بعد سنوات ظهر هذا الكوكب بنفس المميزات التي أوجدها Le Verrier . ومن خلال هذا المثال يتوضح لنا أن العقل و التجربة يلعبان دورا متكاملا. فالتجربة وحدها عاجزة عن تفسير الظواهر كما أن العقل أيضا عاجز عن ذلك، لذلك وجب إكمال الواقعي بالخيالي، فالعلم يتميز بحركة مزدوجة أي أن المعرفة العلمية ثنائية القطب و بذلك فإن صاحب القولة يقر بثنائية مصدر المعرفة العلمية و يرفض أن تكون هذه المعرفة قائمة على جانب واحد فقط إذن فالعقل و التجربة معا هو أساس المعرفة العلمية.

نخلص مما سبق أن صاحب القولة يقر بثنائية مصدر المعرفة العلمية ويؤكد على أنه لا يمكن الفصل بين العقل و التجربة في إطار مجال العلم. وهو ما يؤكده "باشلار" الذي يقر بنفس الأمر حيث يعتبر أن العقل عاجز عن الإقناع التام بدون تجربة كما أن التجربة بدورها غير قادرة على إنتاج معرفة علمية متكاملة دون الاستناد على العقل. حيث يؤكد ضرورة الإلمام بالجانبين معا التطبيقي و النظري حيث يقول " إن بناء معارف علمية يتطلب انفتاحا عقليا للتجارب". وهذا فمصدر المعرفة العلمية يكمن في العقل و التجربة معا. و إذا كان "باشلار" يقر بثنائية مصدر المعرفة العلميةن فإن "رايشنباخ" يحصر هذا المصدر في التجربة فقط، ذلك أنه يعتبر أن مصدر المعرفة العلمية هو التجربة فقط، فهو ينتقد القول بأن العقل أساس المعرفة العلمية.كما يؤكد ذلك "إينشتاين" الذي يقر بأن العقل يأتي أولا، فالمرتبة الأساسية التي يمنحها "راشتباخ"للتجربة في إطار إنتاج المعارف العلمية يطبعها "أينشتاين" على العقل أما التجربة فهي تابعة له،ذلك أنها يجب أن تطابق ما توصل إليه العقل يقول: "إن المبدأ الخلاق في العلم لا يكمن في التجربة بل في العقل الرياضي" وهكذا فالعقل حسب "اينشتاين" قادر على اكتشاف وبناء المعارف العلمية، حيث يتخذ إطار علم الفيزياء النظرية كمثال، فالنظريات الفيزياء تتكون من قواعد و قوانين ينتجها الذهن البشري، يقول :"إن المفاهيم الفيزيائية هي إبداعات حرة للذهن البشري و ليس كما يمكن أن يعتقد محددة من طرف العالم الخارجي". وهكذا "فإنشتاين" يقتصر على العقل في إنتاج المعارف العلمية أما التجربة فيتجلى دورها في مطابقة النتائج النظرية فقط وهو ينفيه "رايشنباخ" حيث يعتبر أن التخلي عن التجربة يسقطنا في النزعة الصوفية و نصبح بذلك أقرب إلى التصوف منه إلى العلم يقول: " إن تخلي الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية باعتبارها مصدرا للحقيقة يجعل بينه وبين النزعة الصوفية خطوة قصيرة، وهكذا ينتقد "رايشنباخ" الموقف الذي يقر بأن العقل مصدر المعرفة العلمية حيث يعتبر أن الاعتقاد بأن العقل ينتج المعارف يستلزم اعتبار كل ما ينتجه العقل من أمور أخرى معارف أيضا، و بالتالي فما يجعلنا نتوصل إلى المعرفة العلمية هو التجربة، إلا أن "روني طوم " يؤكد على ضرورة إكمال هذه التجربة بعنصر الخيال. فالتجربة وحدها عاجزة عن انتاج المعارف العلمية ذلك أنها في حاجة للعقل، حيث يقول:" إن الاعتقاد بأن التجربة وحدها قادرة على التفسير السببي لظاهرة معينة مجرد وهم، ففي جميع الأحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيال، وهكذا نخلص إلى أن "روني طوم" يؤكد على ضرورة الاعتماد على الجانبين معا ، الجانب النظري و الجانب التطبيقي كما يؤكد ذلك "بلانشي" الذي يقر بأنه لابد من الانفتاح على العقل و التجربة معا، فالعلم مجال انفتاح ولا يجب الانغلاق على جانب واحد فقط. و بالتالي لابد من دراسة المواضيع العلمية من زاوتين مختلفين أي أننا يجب أن نستند على الجانب العقلي و الجانب التجريبي و خلافا "لبلانشي" يؤكد "بيير دوهيم" أن للمعرفة العلمية مصدرا واحدا فقط. فالدور التابع الذي يمنحه "إينشتاين" للتجربة، بمنحها "دوهيم " للعقل ذلك أنه يحصر دور العقل في تنظيم ما توصلت إليه التجربة و إعطاء صورة عقلانية للنتائج التجريبية، هكذا فحسب "دوهيم" فالتجربة هي مصدر المعارف العلمية، يقول " إن الاتفاق مع التجربة يشكل المعيار الوحيد للحقيقة". وبالتالي نصل إلى أن "دوهيم" يقر بأحادية مصدر المعرفة العلمية كما يقر بذلك كل من "رايشنباخ" الذي يعتبر التجربة هي ما يمكننا من التوصل إلى المعرفة العلمية. و" إيشتاين" الذي يؤكد على أن العقل قادر على إنتاج معارف علمية و بالإضافة إلى "كلودبرنارد" الذي يقر بأن خطوات المنهج التجريبي من ملاحظة، فرضية، تجريب و استنتاج كافية لوحدها لإنتاج معرفة علمية، وخلافا لهؤلاء يؤكد كل من "باشلار" و "روني طوم" و "بلانشي" على ضرورة الإلمام بالعقل و التجربة و الاستناد عليهما معا من أجل بلوغ المعرفة العلمية أي يقرون بثنائية مصدر المعرفة العلمية.

نستنتج مما سبق أن المعرفة العلمية هي معرفة عقلانية تجريبية، ذلك أن كلا من العقل و التجربة يلعبان دورا مهما في إنتاج هذه المعرفة فالعقل يقدم القواعد و القوانين التي تحتاجها المعرفة العلمية أما التجربة فتمنحها البراهين الملموسة التي من إثباتها و إكمال و هكذا فلا يمكن الفصل بين العقل و التجربة فهما متكاملان وفي إطار ذلك سيتم التفكير من جديد في مدى علمية هذه النظريات و المعارف المتوصل إليها ما يفتحنا على إشكال جديد يتمثل في إشكال معايير علمية النظريات أي كيف يمكن الحكم على نظرية ما بأنها نظرية علمية. فما هي معايير علمية النظريات ؟

 

 

 

الامتحان الوطني الموحد لمادة الفلسفة

شعبة الآداب و العلوم الإنسانية ـ مسلك العلوم الإنسانية

 

الإنجاز الأول :

الموضوع

إن الرجل الحكيم العاقل يستطيع بكسرة خبز وجرعة ماء أن يكون سعيدا. ولنقل نحن إنه ينبغي عليه أن يكون كذلك. ومادامت وصفة السعادة بسيطة بهذا الشكل فإننا يحق لنا أن نتساءل لماذا لا يستخدمها إلا قلة ضئيلة من الناس ؟ ربما لأنه بكسرة خبز وجرعة ماء ينبغي على الإنسان أن يكون سعيدا، لكنه ليس كذلك بالفعل، وهو إذا لم يكن كذلك، فليس من الضروري أن يكون السبب أنه يفتقر إلى الحكمة، بل إن السبب ببساطة هو أنه إنسان. وكل ما هو عميق بداخله ينكر تلك الحكمة ويخالفها في كل لحظة. ويبدو كما لو أن المرء لا يستطيع أن يسعى إلا وراء سعادته هو الخاصة، لكنه يعجز تماما عن بلوغها، لأنه على الرغم من أن كل شيء يسره ويبهجه فلا شيء يرضيه ويكفيه. فمن يملك ضيعة واسعة لا تزال لديه الرغبة في ضم أملاك جديدة وأراض جديدة إليها، والرجل يريد أن يضيف إلى ثرائه ثراء جديدا، وإلى ثروته المزيد من الثروة … والواقع أن هذه التجربة مشتركة وعامة ويعرفها الجميع، لكن من المهم أن نتذكرها هنا … إن كل لذة بشرية مرغوبة، لكنها باستمرار ليست كافية أبدا.

 

الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين لجهة الغرب اشراردة احسن

الثانوية التأهلية ابن بطوطة

يندرج النص ضمن مجزوءة الأخلاق و بالضبط ضمن مفهوم السعي وراء السعادة. لذا يصعب علينا أن تتصور شخصا يهدف إلى الشقاء و يهرب من السعادة عن وعي و قصد، الشيء الذي يعني أن الناس جميعا ينشدون السعادة حتى إن لم يعرفوا على وجه الدقة و التحديد ماهي السعادة، أو لم يهتكوا أصلا بالبحث عن مفهوم السعادة، علما أن السعادة في التصور السائد في وقتنا الحالي وفي دلالاتها العامة ترتبط بالرغبة حيث تتمثل السعادة في تحقيق الرغبات، بل تصبح السعادة نفسها مرادفة لتحقيق الرغبات، بل تصبح السعادة نفسها مرادفة لتحقيق الرغبات، وإذا كان هذا التصور قد صاحب الإنسان منذ القديم،فإن الإشهار في وقتنا الحالي يؤدي جورا مهما حيث أنه لا يشجع المستهلك على الاستهلاك فحسب، بل إنه يذهب إلى حد خلق الحاجات لديه و توليد الرغبات، و بالتالي هل السعادة مطلب سهل المنال؟ وهل يمكن تحقيقه على أرض الواقع. وهل هي غاية أم وسيلة.

استهل الفيلسوف النص بالتأكيد على أن الحكمة تدفع الإنسان إلى السعادة حتى وإن كان يستطيع العيش بكسرة خبز و جرعة ماء بحيث يعتبر أن السعادة وصفة بسيطة لكن أغلب الناس لا يستخدمونها، وذلك ليس لأنهم يفتقرون للحكمة بل لأسباب عدة منها أنه إنسان لديه رغبات وهواجس يسعى إلى تحقيقها مما يؤدي إلى مخالفة الحكمة و يظل عاجزا عن بلوغ سعادته الخاصة، وعلى الرغم من أن البعض يملك ما يكفي للعيش بسعادة فإنه يطمع في ضم المزيد من الثروة وهو أمر نابع من طبيعة الإنسان.

وظف الفيلسوف في هذا النص مفهومين أساسيين هما السعادة و الحكمة، علما أن السعادة هي الخير الأسمى بحيث ترتبط بتحقيق الرغبات و الميولات. و تظل السعادة أمرا يطمح الكل إلى تحقيقها. أما الحكمة فهي كل تصرف نابع من العقل ر يستند إلى الرغبة. وليؤكد الفيلسوف أطروحته، وظف مجموعة من الأساليب الحجاجية مثل التأكيد في بداية النص، حيث أكد أن الحكمة و العقل يلعبان دورا في تحقيق السعادة، متسائلا لماذا مع ذلك لا يحقق الناس السعادة مادامت وصفة بسيطة وقد استخدم الفيلسوف مجموعة من الأمثلة منها أن من يملك ضيعات واسعة لا تزال لديه الرغبة في ضم أملاك و أراضي جديدة و الرجل، و الذي يريد أن يضيف إلى ثرائه ثراء جديد و إلى ثروته المزيد من الثروة. كما وظف أسلوب الاستنتاج في آخر النص بإبراز أن السعي وراء إشباع الرغبات نابع من أغوار سحيقة و قلقة في الطبيعة البشرية.

وفي سياق نفس الإشكال، يرى "جون جاك روسو" أن التطور الذي عرفته الحضارة الإنسانية و التطور الذي عرفه الإنسان ذاته، أفقده إلى الأبد الفردوس الذي عاشه في فترة كانت رغباته بسيطة و مناسبة لقدراته، قبل أن يخترع أشياء و كماليات حققت له رغباته وولدت لديه حاجات جديدة، وبذلك يكون الإنسان قد وضع في عنقه أول قيد. وكان ذلك هو المصدر الأول الألم الذي توارثته الأجيال إذ أضحى السعي وراء السعادة مصدرا دائما للشقاء، وحول السعادة إلى ماض لا حاضر له ولا مستقبل، لكن هل اخترع الإنسان فقط ما يجلب له الشقاء و الألم؟

سؤال يجيب عليه " دافيد هيوم" بالنفي مؤكدا أن الإنسان أبدع فنونا مكنته من تحقيق سعادته عن طريق تذوق مختلف للإبداعات الفنية من شعر وموسيقى إذا امتلك ذوقا ورهافة إحساس و جمالية

تمثل قولة "كانط" : " عن الأخلاق لا تعلمنا كيف نكون سعداء ل كيف نكون جديرين بالسعادة "ظ مدخلا لمعالجة العلاقة بين السعادة و الواجب. فقولة " كانط" هذه تتضمن انتقادا واضحا لنظريات اللذة التي ترى في السعادة الغاية القصوى للحياة لتجعل الواجب في خدمة السعادة، بينما يرى " كانط" أن الواجب الذي نتوخى من ورائه تحقيق السعادة و المتعة لا يعتبر أخلاقيا، فمحاولة مساعدة الغير و إسعاده لا يعتبر سلوكا أخلاقيا إذا كان يهدف إلى السعادة الشخصية.

إن الواجب نداء ينبع من العقل باستقلال عن المتعة و الألم و بالتالي عن السعادة، وهو وحده الذي يمنح لأفعالنا معنى الكرامة، لذا لا ينبغي أن تنظر من الواجب ما يحقق سعادتنا لأن هذا ليس دوره.فهل يعني بأن "كانط" يفصل بين الواجب و السعادة؟

إن النزوع إلى السعادة جزء لا يتجزأ من الوضع البشري، فنحن بالضرورة نتجه نحو اللذة ونتجنب الألم، فنحن"لسنا عقود لا خاصة" بل أجسامنا لها أحاسيس و عواطف و إذا كان تحديد مفهوم الواجب يتم باستقلال عن التجربة، فإن تحقيق حياة أخلاقية على أرض الواقع ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الكائن البشري الذي جسد إلى جانب كونه عقلا، ولذلك فإن سلوكنا في توتر بين الواجب من جهة و إرضاء الرغبة من جهة أخرى، و إذا كانت الأخلاقية تقتضي منا الانحياز إلى الواجب، فألا نجد وراء كل واجب رغبة أخلاقية؟ لا يمكن أن نتجاهل التأثير القوي للرغبة علينا يقول أحد المفكرين :" الفقر و الألم دافع قوي للخروج عن الواجب، بمعنى الحرمان من السعادة و من إرضاء الرغبات حاجز أمام القيام بالواجب.

ونخلص في الأخير إلى أن تحقيق السعادة على أرض الواقع أمر صعب مع تقاطع الرغبات و الإرادات مع الواجب.

 

 

 

الامتحان الوطني الموحد لمادة الفلسفة

شعبة الآداب الإنسانيةـ مسلك العلوم الإنسانية

 

الانجاز الثاني:

الموضوع

هل يمكن أن تتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض ؟ إنجاز التلميذ عبد الحق

الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين لجهة الرباط سلا زمور زعير

الثانوية التأهيلية عمر الخيام

 

اندهش الإنسان أول الأمر من الوجود. و من الطبيعة وألغازها. فكان التحدي الأول الذي واجه هو محاولة فهم و تفسير الظواهر الطبيعية التي تحيط به. و على امتداد الرحلة العلمية استطاع كشف العديد من أسرار الطبيعية لدرجة السيطرة على معظمها. لكن بقدر ما اهتم الإنسان بالطبيعة، بقدر ما نسي نفسه، أو بالأحرى لم يلتفت لذاته إلا متأخرا. إي إلا بعدما بدأ يشعر أنه استطاع فهم و تفسير الظواهر الطبيعية التي تحيط به، و بدأت تراوده فكرة نقل هذا النموذج الناجح لتطبيقه على الإنسان . لقد أغرت الإنسان  النجاحات التي عرفها مجال العلوم الطبيعية فحاول الاستفادة منها لتحقيق انجازات مماثلة في العلوم الإنسانية. فتوالت الدعوات لتطبيق المناهج العلمية التجريبية و الصارمة التي أثبتت نجاعتها وتفوقها في المستوى الطبيعي على المستوى الإنساني.

هكذا إذن سيتحول الإنسان الذي كان على امتداد التاريخ ذات عارفة إلى موضوع للمعرفة، إذ سيتحول من دارس إلى مدروس، ومن كائن فوق طبيعي إلى جزء من الطبيعة، يخضع لقوانينها و نظمها و حتمياتها. وبدأ يؤمن بإمكانياته الوصول إلى معرف موضوعية بذاته و إلى فهمها و تفسيرها كما هو الشأن مع أيه ظاهرة طبيعية أخرى. فهل من السهل تحقيق ذلك؟ هل بالإمكان تحقيق معرفة علمية دقيقة بهذا الكائن الراغب، و المتخيل، و المتغير، و المعقد، و المتقلب، و المتداخل الأبعاد و الذي يسمى الإنسان؟

كيف يمكن إذن موضعة الظاهرة الإنسانية ؟ و هل يصح الحديث عن التفسير في العلوم الإنسانية أم أن وظيفتها تقتصر على فهم الظواهر لا تفسيرها؟ وهل تصلح المناهج العلمية التجريبية للتطبيق على العلوم الإنسانية أم أن هذه  الأخيرة عليها أن تجد مناهج خاصة بها؟

إن السؤال الذي بين أيدينا يندرج ضمن مجزوءة المعرفة وخصوا ضمن الباب المتعلق بمفهوم العلوم الإنسانية و ما تطرحه من إشكالات و تناقضات. فهل يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في التناقض؟ أول ما يجب تسجيله هو أن السؤال قابل أن نجيب عليه بالنفي أو الإيجاب أو برأي ثالث يتأرجح بينهما. صحيح أن الفلسفة تفكير نقدي، لكنها في ذات الوقت، تفكير عقلي منطقي ينبني على الفهم و المساءلة و التفكير قبل إصدار الأحكام، وحتى لا يظهر موضوعنا في صورة الأحكام القبلية و الجاهزة فلا بد أن يكتسي صيغة إنشاء، أي بناء عقليا متدرجا ينطلق من الفهم إلى النقد، مستثمرين بعض الأطروحات الفكرية و الفلسفية التي نعرفها.

إذا أزلنا الطابع الاستفهامي للسؤال سنحصل على العبارة التالية: يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض. الأمر الذي يستدعي منا تحليل مجموعة من المفاهيم التي يتضمنها هذا السؤال مع مناقشة ما يتضمنه من إشكالات، ونعتقد أن تسجيل هذه الخطوة الأولية سيساعدنا على تمثيل الخطوات المنهجية اللاحقة.

في الحقيقة عندما يتم التحدث عن علم ما فالشرط الأساسي هو الموضوعية، و الحال أن العلوم الإنسانية لم نستطيع تحقيق هذه الموضوعية نظرا لمجموعة من الاعتراضات و العقبات. كذلك فإنها علوم تعاني من ثلاث مشاكل تعتبر بمثابة عواقب تحول دون أن تتجه نحو العملية، وهي كالتالي: مشكلة موضعة الظاهر الإنسانية، و التأرجح بين التفسير و الفهم، وأخيرا مدى ملائمة المناهج التجريبية للعلوم الإنسانية وهذا ما يضعنا أمام مجموعة من التناقضات.

إن بناء نظرية عملية حول التجربة الإنسانية، يصدم بذلك التداخل بين الذات و الموضوع و الذي يشكل عائقا أمام تحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية. إن هذا التداخل يبرز تلك المفارقة الكبرى التي يعشيها كلل ممارس في العلوم الإنسانية فهو يعيش داخل المجتمع وفي نفس الوقت يطلب منه التموضع خارج كل صراعاته، فهو لا يستطيع الحياء حتى ولو رغب في ذلك.

يقول " دور كايم":" الواقعة الاجتماعية هي طريقة في الفعل ثابتة أولا و قادرة على ممارسة الإكراه و الإلزام على الفرد ثانيا، وهي ثابتة في المجتمع و مستقلة عن كل مظاهره الفردية." فحسب " دور كايم" إنها ظواهر موضوعية توجد خارج وعي الأفراد، و تتميز بالإلزام و الإكراه، مع العلم أن الشخص عندما يتمثل إليها فإنه لا يحس بذلك الإكراه، بل يحسن به عبر هذه العقوبات: القانون و العادات الاجتماعية، و النظام النقدي، و نظام الرموز المستعمل للتعبير عن الأفكار و المعتقدات الفردية و الدينية...

يتضح مما سبق، أن الظواهر الاجتماعية هي ظواهر تتميز بالإكراه و الإلزام الذي تقتصي مخالفتها عقوبات، وهي بذلك تتميز بثلاث خاصيات: الثبات ـ الاستقلالية و الخارجية و ممارسة الإلزام و الإكراه.

  أما "فوكو" فهو يرى أن صعوبة الظاهرة الإنسانية تعود بالدرجة الأولى إلى خصوصياتها، ذلك أن موضوعات العلوم الإنسانية تعود بالدرجة الأولى إلى خصوصياتها، ذلك أن موضوعات العلوم الإنسانية هي موضوعات متميزة ولها خصوصية، مما يجعل من الدراسة أمرا في غاية الصعوبة و ربما كان هذا هو السبب من وراء صيغة الجمع التي تأخذها عادة " العلوم الإنسانية".

صعوبة الموضعة تعود كذلك إلى عدم قابلية هذه العلوم للتحديد الدقيق و التكميم و التجريب و القياس و التدقيق، كما هو الحال في العلوم الحقة. يضاف إلى ذلك إشكال التداخل بين الذات و الموضوع ، إذ تكون الذات هي المجربة و الملاحظة على ذاتها مما يثير عدة إشكالات و تعقيدات فالباحث الاجتماعي مثلا، لا يمكنه أن يفصل عن موضوعه الذي سيقوم بدراسته، لأنه لن يستطيع فهمه دون النفاد إليه الأمر الذي يقتضي المشاركة ة الانخراط داخل الجماعة.

هكذا إذن تعتبر مشكلة موضعة الظاهرة الإنسانية إشكالية مركزية في علوم الإنسانية، وبهذا تتفرغ عنها مشاكل أخرى مثل صعوبة التجريب و الخضوع للقوانين الحتمية. فالباحث لا يمكن أن ينفصل عن موضوعه الذي سيقوم بدراسته، كما أن كل محاولة لاختزال الوحدة المتكاملة في الإنسان بتنشئته أو موضوعته الذي سيقوم بدراسته، كما أن كل محاولة لاختزال الوحدة المتكاملة في الإنسان بتنشئته أو موضوعته نفقده حقيقته، و بالتالي بدون تحقيق الموضوعية نسقط في أول تناقض للعلوم الإنسانية ، كل هذا يدفعنا إلى الحديث عن جانب آخر ألا وهو التفسير و الفهم في هذه العلوم. فهل يمكن تفسير العلوم الإنسانية كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أم يجب علينا فقط الاكتفاء بفهم الظواهر الإنسانية ؟ إن ما يزيد من تعقد الوضع الإبستمولوجي [المعرفي] للعلوم الإنسانية هو نأرجحها بين عملتي التفسير و التنبؤ. لكن أليس من الخطأ المقارنة بين العلوم الحقة و العلوم الإنسانية باعتبار موضوع هذه الأخيرة.

إن هذا الاختلاف و التمايز يفضي إلى منهج التفسير في العلم و منهج الفهم في العلوم الإنسانية.

وفي هذا السياق، يقول " دلتاي" : " نفسر الطبيعة، و نفهم الحياة النفسية" فحسب " دلتاي" منهج العلوم الطبيعية هو منهج تفسيري لأنه يكشف الأسباب و النتائج بدقة أما منهج العلوم الإنسانية  فهو منهج تفهمي يتعرف على الظواهر الإنسانية في خصوصيتها دون إخضاعها للمبادئ الموضوعية الصارمة و الحتمية المطلقة و ينتج عن ذلك كما يقو "دلتاي" : سنقرر بأن للعلوم الروحية[ الإنسانية] الحق في أن تبني منهجها. انطلاقا من موضوعها. هكذا إذن يطرح "دلتاي" المنهج التفهيمي في العلوم الإنسانية، فالظاهرة الإنسانية هي الظاهرة ذات الطابع الفرداني النسبي الذاتي و المتغير. وهي بالتالي لا تفسر كما تفسر أية ظاهرة طبيعية. وخلاصة القول أن العلوم الدقيقة هي علوم تفسيرية لأنها تنطلق من الجزء في اتجاه الكل. أما العلوم الروحية فهذه علوم تعتمد الفهم لأنها تتجه من الكل في اتجاه الجزء وهذا هو ممكن الفرق بين هذين النوعين من العلوم.

أما "سترواس" فهو يرى أن العلوم الإنسانية تحتل موقعا وسطا بين التفسير و التنبؤ، على عكس العلوم الدقيقة التي استطاعت أن تفصل بينهما بالرغم من أنهما كان من وراء التقدم الهائل لهذه العلوم. يقول "سترواس" : "لا يمكن أن نشك أن التقدم الذي حققته العلوم الدقيقة، كان بفضل ما ربحته من العمليتين أي التفسير و التنبؤ."

إلا أن تفسيراتها و تنبؤاتها تكونان دائما مجالاو عرضة للتصحيح و التجريب الدائمين. كما أن العلوم الدقيقة تتنبأ بظواهر ثم تفسيرها. كما تفسر ظواهر تتنبأ بها. ولعل خير مثال على ذلك بالنسبة للأولى علم الأرصاد الجوية، أما الثانية نظرية التطور عند "دارولين". على عكس العلوم الإنسانية، التي ليست دقيقة لا في تفسيراتها ولا في تنبؤاتها. لأنها تسير في طريق سيء لا يسمح لها لا بالتفسير ولا بالتنبؤ. و تكتفي اليوم بتفسيرات فضفاضة تقريبية تنقصها الدقة دائما... إن العلوم الإنسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا ولا تتنبأ بيقين تام.

وبالرغم من أن العلوم الإنسانية لا تنجز تفسيراتها ولا تنبؤاتها بنفس الدقة التي نجدها في مجال العلوم الدقيقة، لكنها رغم ذلك استطاعت أن تقدم نموذجا جديدا للمعرفة يحتل مكانين بين معرفة خالصة تقوم على التفسير و معرفة نافعة تقوم على التنبؤ.

هكذا فإن المعرفة العلمية التي تسعى إلى جعل عالم الإنسان عالما للملاحظة و التجريب و للتفسير و التنبؤ. فإنها معرفة تفرغه من معناه العام كعالم معيش. فظاهرة الإنسانية تجربة معيشية  يكون فيها العالم عالما من أجل الذات فسواء اعتبرنا أن العلوم الإنسانية تفسر الظواهر أو تفهمها، فإنها تظل محاولة لتكوين صورة عقلية عن هذا الواقع الإنساني المعقد بطبيعته.

وها هنا نسقط في التناقص الثاني لهذه العلوم. إذ كيف للعلوم الإنسانية أن تكون علوما وهي ليست دقيقة لا في تفسيراتها ولا تنبؤاتها؟

وهكذا يتبين لنا أن الرهان الحقيقي للعلوم الإنسانية هو نموذجية العلوم التجريبية. فإلى أي حد تصدق المناهج التجريبية للتطبيق على الإنسان؟

إن رغبة العلوم الإنسانية في تحقيق الموضوعية و حسم خلاف الفهم و التفسير يكشف رغبة صريحة في الاقتداء بمناهج العلوم الطبيعية. فهل يمكن تحقيق ذلك ؟ أليس من التناقض تطبيق العلوم التجريبية على الإنسان الذي يتميز بالوعي و الإرادة و الحرية ؟

لكن لماذا ننظر إلى التداخل بين الذات و الموضوع على أنه سلبي؟ و الحال أنه يجب اعتباره بمثابة نموذج يحتدى به. خصوصا و أن تدخل الذات في المعرفة بات واقعا إبستمولوجيا أكدته الفيزياء المعاصرة.

خصوصا و أن ستراوس يؤكد أن ثنائية البحث العلمي و القائمة على ثنائية الذات الملاحظة و الموضوع الملاحظ لا تقتصر فقط على العلوم الإنسانية بل تتعدى العلوم إلى الفيزياء المعاصرة و البيولوجيا.

إن معرفة الذات لذاتها و لمعالمها انظلاقا من تجربة العالم المعيش وهذا هو المهم في المعرفة أو الأهم في كل معرفة. إن الذات هي التي تمنح معنى للعالم و العلم.

ولمناقشة مسألة مدى نموذجية العلوم التجريبية، يمكننا استحضار النزعة الوضعية، حيث تأسست علوم الإنسان في بدايتها على النزعة الوضعية [الفلسفة الوضعية] التي تمجد المعرفة العلمية و تجعلها هي المعرفة الحقة و هي و كما يقول صاحبها"أوغست كون" : " إن الإنسان لا يستطيع الكشف عن طبائع الأشياء ولا عن أسبابها المباشرة، بل يستطيع فقط الكشف عن علاقتها و أسبابها" فالمعرفة الحقيقية هي المعرفة المبنية على الواقع و التجربة و أن نموذج العلوم التجريبية يمثل المثل الأعلى لليقين.

وهكذا نجد الفلسفة الوضعية تسعى إلى تعويض كل من التفسير اللاهوتي و الميتافيزيقي بالتفسير الوضعي الذي يقوم على قانون المراحل الثلاث[ المرحلة اللاهوتية، المرحلة الميتافيزيقية، المرحلة الوضعية]. فالإنسان من خلال هذا المنظور هو كائن مثل الكائنات الطبيعية من جهة قابليته للتحديد العلمي الصارم و نفس التوجه نجده عند عالك الاجتماع، عندما يقول :"يجب دراسة الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء".

أيضا عند رواد علم النفس التجريبي الذين يقولون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة فيزيولوجية تفسر كأية ظاهرة طبيعية .

وحتى مع المدرسة السلوكية "واطسن" حيث تقصي معرفة الإنسان لذاته و تعوض النفس بالسلوك، و الهدف من ذلك هو البحث عن علاقة بين الميراث و الاستجابات فإلى أي حد تصدق هذه التصورات القائلة بنموذجية العلوم التجريبية؟

أليس من التناقض تطبيق العلوم التجريبية على كائن عاقل حر له إرادة؟

هنا نتنقل إلى موقع آخر وهو موقف"ميرلوبونتي" حيث ر يتردد في إعلان موقفه الجذري من هذه المسألة، حيث يعتبر أن تحقيق معرفة موضوعية بالإنسان أمر غير ممكن، كما يرفض أية محاولة لتجزئ الإنسان و تجاهل تجربة المعيشية.

إن الإنسان في رأي " ميرلوننتي" كل لا يتجزأ، و أن أهم ما يميزه هو أنه يوجد كتجارب معيشة، يحياها الإنسان أولا، قبل أن يعبر عنها العلم ثانيا، فالمعرفة تقتضي الرجوع إلى العالم المعيش للإنسان وهنا تكمن استحالة تطبيق النموذج العلمي.

ويتضح مما سبق أن النقاش الإبستمولوجي المرتبط بالعلوم الإنسانية يفرز جملة من الإشكالات و التناقضات الإبستمولوجية، تتعلق بإمكانية علمية هذه و باستحالتها. فكان التأكيد على أهمية الذات باعتبارها شرطا ضروريا للمعرفة و بناء النظريات، كما ساهم هذا النقاش في إعادة التفكير في العلوم الحقة باعتبارها النموذج الوحيد للعملية.

وهكذا فبإمكان العلوم الإنسانية أن تقدم صور مغايرة لعلمية العلوم الطبيعية، وبعد هذه الأشواط يتأكد لنا أننا عندما نتحدث عن علوم إنسانية فإننا نسقط في تناقضات: كالتجريب على الإنسان، عدم تحقيق الموضوعية، التأرجح بين التفسير و الفهم، مدى ملائمة العلوم التجريبية أو العلوم المسماة علوم ما حقة للعلوم الإنسانية.

ختاما، إن معرفة الإنسان لذاته ما زالت في بدايتها و بين إبداع أصيلة و اعتمادا نماذج جاهزة، ما زالت المحاولات و الاجتهادات مستمرة، بالرغم ما تتولد عليها من نقشات و مجالات فكرية مهمة، تعتبر السبل الأمثلة لتطور سيرورة العلوم الإنسانية، كما لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته هذه الأخيرة في إنارة جوانب مظلمة كانت قريبة من الجانب الإنساني، كما لا يمكن إنكار الدور السلبي الذي لعبته في تعرية الإنسان و تشييئه، و إفقاده تميزه كذات لإرادة ووعي و حرية .

سيأتي اليوم الذي لن تشعر فيه بأي حرج في إدراجها ضمن العلوم الحقة؟ وربما سيأتي اليوم الذي سيتعرف فيه روادها على استحالة فك لغز هذا الكائن المسمى بالإنسان؟

 

 

الامتحان الوطني الموحد لمادة الفلسفة

شعبة الآداب و العلوم الإنسانية ــ مسلك الآداب

 

الإنجاز الأول :

المــوضــوع

هل يمكن اعتبار اتفاق الآراء معيارا للحقيقة ؟

 

الشعبة : الآداب و العلوم الإنسانية ـ مسلك الآداب

الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين لجهة مكناس تافيلات

مترشح حر

 

دأبت الفلسفة على تقديم نفسها كخطاب للحقيقة و الحقيقة المنزهة، تلك التي تنتج عن مجهود عقلي وروحي خاص، وإذا كانت الحقيقة نقيضا للخطأ و الوهم و الظن و التسرع و الأحكام المسبقة فإن كل هذه الأضداد تجتمع تحت مسمى واحد : الرأي.

ولكن من يقيم هذه التقابلات أولا ؟ هل هناك رأي يشير إلى نفسه باعتباره رأيا؟ وهذه المعرفة الحقيقة اليقينية الناتجة عن منهج و مجهود عقلي، هل هي استمرارية للرأي أم أنها تشكل قطيعة معه ؟

يميز "أفلاطون" بين الحقيقة من جهة و الرأي أو الظن أو الدوكسا من جهة ثانية بحيث أن الأولى مرادفة لليقين و الجوهر بينما يترادف الرأي الوهم و المظاهر. و تقدم لنا محاورة مينون مثال الشخصين أولهما يعلم الطريق إلى المدينة"لاريسا" علم اليقين و سبق له أن زارها بينما لا يعلم الثاني هذا الطريق إلا من جهة السماع و التخمين. من الممكن أن يهتدي الثاني إلى الطريق، إن معرفته لا تتجاوز الرأي بيد أنه رأي سديد، ولكن بينما يصل ذو العلم إلى مبتغاه على الدوام و بشكل يقيني يمكن لصاحب الرأي أن يبلغ مبتغاه حينا و يضل عنه حينا آخر.

سيتخذ الحذر من الرأي عند "ديكارت" طابعا منهجيا راديكاليا تقع الحقيقة في نهاية سرداب يبدأ بالشروع ولو لمرة واحدة في حياتنا في الشك في جميع الآراء التي تلقيناها و صدقناها و في الأشياء التي نجد فيها أدنى شبهة من عدم اليقين بغية التخلص من الأحكام المسبقة و الآراء المتداولة التي تعجلنا في إطلاقها و التي تتشبت بأنفسنا بقوة، و تستمر فكرة القطيعة بين الحقيقة و الرأي في الفلسفة المعاصرة و بالضبط في الإبستمولوجيا الباشلارية : الرأي دائما خاطئ الرأي نوع من التفكير السيئ بل إنه ليس تفكيرا على الإطلاق و ليس تاريخ العلوم إلا تاريخ دحض وهدم مستمرين للرأي أو بالأحرى لبادئ الرأي الذي يعد واحدا من أقوى العوائق الإبستمولوجية و من حيث كونه فكرا تفرزه الحياة اليومية في البرغماتية فإن الرأي يكتفي بترجمة الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها فيحرم نفسه بذلك من معرفتها.

لأن الفلسفة لا تتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها وادعاءاتها فلا مناص من أن نتساءل :ما "حقيقة" القطيعة بين الحقيقة و الرأي ؟ إذا كانت الحقيقة تفضل الرأي بكونها نشأت وفق منهج و دليل ألا تقوم بعض الحقائق بدورها على اعتقادات و آراء لا سبيل للبرهنة أو التدليل على الحقيقة العلمية بها ؟

ومن جهة أخرى، يعتبر الفيلسوف"توماس ريد" من القلائل الذين سعوا صراحة إلى إعادة الاعتبار إلى مقولات الحس المشترك و بداهاته و التي يرى أن افتراضاتها لا تقل عن الافتراضات الميتافيزيقية لأغلب المذاهب الفلسفية بل إنها تتضمن من الصواب أكثر ما تحويه النظريات الفلسفية كما أن ما يدخله الفلاسفة في عداد الرأي أو الحس المشترك أقدر ببداهاته على مقاومة مذاهب الشك الهدامة أكثر مما تستطيع أنساقهم الفلسفية نفسها. و تتميز اعتقادات الحس المشترك حسب  "توماس ريد " بكونيتها إذ لا يماري فيها سوى بعض الفلاسفة و الحمقى.

لكننا نسجل من جهة أخرى ميل الديمقراطيات الحديثة إلى إعادة الاعتبار للرأي فيما يسمى بالرأي العام و استطلاعات الرأي و كأن الفرار السياسي و الاقتصادي أو الأخلاقي الحق و الصائب ليس سوى جماع الرأي السائد و المتداول على أوسع نطاق. قد تفسر ذلك بتعذر الحديث عن حقيقة يقينية في هذه المجالات التي يسود فيها الاحتمال و الترجيح plausible) Le ( . ولأن الرأي و الحس المشترك لم يعد مجرد اعتقادات ساذجة بل أصبح رأيا متنورا منذ اختراع المطبعة وصولا إلى ثورة وسائل الإعلام. فهل يعني ذلك أن الفيلسوف مضطر تجنبا لتهمة النخبوية لعقد مصالحة بين الحقيقة كما ينشدها و الرأي الذي طالما عمل على ازدرائه

 

 

 

 

الامتحان الوطني الموحد لمادة الفلسفة

شعبة الآداب و العلوم الإنسانية ـ مسلك الآداب

 

الإنجاز الثاني

المـوضــوع

إن التاريخ معرفة دون أن يكون علما، لأنه يتعرف في أي مجال من مجالاته على الخاص بواسطة الكوني، بل عليه أن يحيط مباشرة بالواقعة المفردة، وبصيغة أخرى، إن التاريخ محكوم عليه بالزحف ملتصقا بميدان التجربة العينية، وعلى العكس من ذلك فإن العلوم الحقة تحلق عاليا بفضل المفاهيم الشاملة التي اكتسبتها و التي تتيح لها السيطرة على الخاص،وعلى إدراك الأشياء التي تندرج داخل مجالها[...] لا تتحدث العلوم أبدا، بوصفها أنساقا من المفاهيم، إلا عما هو كوني، بينما لا يدرس التاريخ إلا الحالات الخاصة. و القول بأن التاريخ علم بهذه الحالات بهذه الحالات الخاصة قول يسقطنا في التناقض. كما ينتج عن ذلك أن العلوم كلها تتناول ما هو متكرر وعام، في حين أن التاريخ يحيل على ما لا يتكرر. أضف إلى ذلك ، أن التاريخ إذ لا يهتم سوى بالخاص أو المفرد، الذي لا يمكن الإحاطة به كلية بحكم طبيعته، لن يبلغ سوى معرفة تبقي دائما ناقصة، وعلى التاريخ أيضا أن يقنع بما يخبره به كل يوم جديد، في رتابته و ابتذاله، بما كان يجهله بالأمس.

 

الشعبة : الآداب و العلوم الإنسانية ـ مسلك الآداب

لأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين لجهة الشاوية و رديغة

مترشح حر

 

يندرج النص قيد التحليل ضمن مجزوءة الوضع البشري، التي تدرس التاريخ كمجال من مجالاتها المتعددة و المتنوعة، و التي تضع التاريخ في محك حقيقي، متسائلين من خلال الإشكالات العالقة بالنص عن المعرفة التاريخية: هل التاريخ معرفة شاملة أم علم قائمة بذاته كباقي العلوم؟ ما الذي يميز التاريخ عن العلوم الحقة ؟

هل التاريخ دراسة كونية أم دراسة لحالات خاصة؟ ثم مدى أهمية المعرفة التاريخية؟ إشكالات سنحاول الإجابة عليها مرتكزين على وجهة نظر الكاتب من جهة و ما قد يشوبها من قصور حسب آراء كتاب و فلاسفة آخرين.

يقر صاحب النص بفكرة محورية مفادها أن التاريخ لا يعدو أن يكون إلا مجرد معرفة لأنه لا يعتمد قوانين و مناهج علمية تمكننا من إسقاط الدراسة التاريخية على بعض المكونات الكونية، بل التاريخ يحيط بالوقائع المفردة منعزلة و غير مرتبطة بظواهر أخرى، عكس العلوم الحقة [الفيزياء ـ الرياضيات ـ العلوم] التي تحيط بسائر الأشياء المندرجة تحتها، وذلك لامتلاكها آليات و مفاهيم بمثابة مفاتيح تسيطر بها على جزئيات مجال تخصصها شأن العلوم الدقيقة [ التشريح ـ الطب ، الخلايا...][الفلك ـ الحساب ـ الهندسة...] ثم ينتقل بعد ذلك إلى تأكيد مقولته " أي التاريخ معرفة"، بربط الدراسة التاريخية لما هو خاص أو دراسة الحالات الخاصة، عكس العلوم في صورة مفاهيمها المتناسقة و المتسقة التي تدرس ما هو كوني. لكن الكاتب وفي خضم هذا الطرح أدرك أن الذي يمرر هذه العلوم من أجيال لأخرى قناة واحدة تدخل في مسعى التاريخ. ويضيف استنتاجا آخر يزكي أطروحته مفاده أن العلوم عكس التاريخ تتناول ما هو متكرر وعام في حين أنه يدرس ما ر يتكرر من أحداث وإن تكررت بالفعل فإنها لن تتكرر في زمانها المحدد لها سلفا، ثم خلص الكاتب في طرحه إلى أن التاريخ يحكم اهتمامه بما هو خاص و مفرد لا يمكن أن ينتج إلا معرفة ناقصة، فهو لا يعدو إلا أن يكون أداة إخبار لما يجهله الناس.

من خلال أطروحة الكاتب يتبين لنا أنه لا يتعرف بدور التاريخ و أهميته في حياة الإنسان مستعملا أسلوب تقريبا و مقارنا إياه بباقي العلوم الأخرى، و مبرزا قصوره و اللادور الذي يقوم به. فهو يلتقي مع طرح الفيلسوف و المفكر "غرانجي" من جهة أن المعرفة التاريخية نظرية لا تقبل التطبيق يحكم أنها لا تعالج الوقائع الخاصة و إنما تهتم بإعادة بناء تلك الوقائع و إعادة بناء ماض مرتبط بالأفراد، إعادة البناء ماض هي التي أشار إليها "آرون"Aron في كونها إعادة بناء ما كان موجودا في الماضي. فكل ما نعيشه الآن هو دال و تلقائي، لكن ما عاشه الآخرون في الماضي، نجد صعوبة في تصوره و فهمه. كما أن "مارو" شاطره الرأي في كون التاريخ هو معرفة الماضي الإنساني. إلا أن "ابن خلدون" الفيلسوف و المفكر أشار إلى الدور الكبير و الأهمية البالغة للمعرفة التاريخية عبر مراحل باعتماد المنهج العقلي عن طريق التحقق و التقصي عوض المنهج السردي، فالتاريخ حسب "ابن خلدون" ليس مجرد سرد الأحداث و يشاطره "Jean-Paul-Sartre " "سارتر"في أهمية التاريخ باعتبار الناس يصنعون تاريخهم الخاص بممارسة الحرية في سبيل تحقيق ما يصبون إليه.

من خلال ما سلف يتبين لنا أن التاريخ بين مؤيد و معارض لأهميته، يبقى عنصرا هاما في رسم معالم الحضارة الإنسانية، إذ بدون ماض لا يمكننا أن نعيش الحاضر ولا أن نطمح إلى غد أفضل.  

 

 **************

القولة:

"إن العنف، ليس بطبيعة الحال، إلا الوسيلة الوحيدة للدولة."    

 تتأطر هذه القولة ضمن المجال الإشكالي لمجزؤة السياسة في ارتباطها بمفهوم الدولة وهي تعالج تحديد الدولة بين الحق والعنف ويمكن صياغة إشكال القولة في التساؤلات التالية: كيف تمارس الدولة سلطتها على المحكومين؟ هل تمارس هذه السلطة وفق ما تمليه القوانين المتواضع عليها أي على الحق أم على العنف والتسلط؟

     تنطوي القولة على أطروحة مفادها أن العنف هو الوسيلة الوحيدة للدولة وهي تحتكر ممارسته عبر أجهزتها الخاصة، إن العنف كقسوة وضرر هو ما يؤسس الدولة ويجعل وجودها مقبولا؛ لهذا تضفي عليه مشروعيتها وتجعل منه شيئا من اختصاصها، في حين لا تعتمد على الحق ولا إتباع القوانين كأساس لها.

     يمكن اختزال أطروحة القولة في المفاهيم الأساسية التالية: الدولة باعتبارها تنظيم سياسي لجماعة ما على ارض محددة عبر سلطتها المتمثلة في مجموعة من المؤسسات والأجهزة المرافقة لها. في حين يشير مفهوم العنف سياسيا إلى استخدام القوة استخداما غير مشروع وغير مطابق للقوانين المتفق عليها، وأخر مفهوم هو الحق الذي يعبر عما هو مطابق لقاعدة محددة ولما هو مؤسس ومشروع، فالحق هو ما لا يحيد عن قاعدة سواءا كانت برهانية أو أخلاقية أو قانونية.

     ترتبط المفاهيم السابقة بواسطة روابط منطقية تكشف عن منطق الحجاجي المتضمن في القولة وهو التأكيد والنفي والاستثناء "إن العنف،ليس بطبيعة الحال، إلا الوسيلة الوحيدة للدولة" التأكيد على أن العنف هو الخاصية المميزة و الوسيلة الوحيدة للدولة وهي التي تقوم باحتكاره عن طريق مؤسساتها.

     تراهن القولة على أطروحة مفادها أن الوسيلة الوحيدة لدولة هي العنف، لكن إلى أي حد يمكن قبول هذا التصور؟ هل هناك من مواقف تؤيد أو تخالف هذا التصور؟

     تأكيدا لأطروحة القولة ورهاناتها يرى "ماكس فيبر" أن العنف هو ممارسة طبيعية للسلطة من طرف الدولة المعاصرة كمجموعة بشرية تسعى بنجاح إلى احتكار واستخدام العنف المادي والرمزي من اجل ضمان السلطة، هذه السلطة لا يمكن أن توجه إلا بواسطة العنف الذي يشكل الخاصية المميزة لدولة والوسيلة المشروعة لتثبت وجودها، ولا تسمح لأحد بممارسته سواها. فهل يمكن القبول بهذا التصور كحل لإشكالية سلطة الدولة؟ وهل العنف هو السمة المميزة الوحيدة لسلطة الدولة؟ ألا يمكن أن نجد لسلطة الدولة مسارا إنسانيا يقوم على الحق؟

    مقابل هذا التصور يمكن استحضار موقف فلسفي أخر والذي عالج الموضوع من زاوية أخرى ويتعلق الأمر هنا بالفيلسوف "سبينوزا" الذي يرى أن الغاية من تأسيس الدولة ليست السيادة أو إرهاب الناس وجعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان،أي أن يحتفظ بقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير، فليس العنف إذن في نظره الطريقة السليمة لتسيير دواليب الحكم لأن الدولة تعرف بالسلطة لا بالعنف لأن السلطة لها طابع التنظيم لا الفوضى.

     يتبين مما سبق الطابع الإشكالي لموضوع القولة إذ ينفتح على عدة رؤى ومقاربات فإذا كانت القولة تؤكد على أن العنف هو الوسيلة الوحيدة التي تستمد منها الدولة مشروعيتها وتقوم على أساسها، فهناك في المقابل من أكد على أن العنف ليس الطريقة السليمة لتسيير وتنظيم الدولة.فما هي إذن الوسيلة الأمثل التي يمكن للدولة أن تستمد مشروعيتها منها؟     

 ********
 

السؤال:

"هل تقوم دولة الحق على العنف؟"

يتأطر السؤال ضمن مجزوءة السياسة تحديدا مفهوم الدولة حيث يعالج إشكالية الدولة بين الحق والعنف. و يمكن      طرح جملة من الأسئلة التي تصب في الإشكال الذي سوف تتم معالجته: ما الأساس الذي تقوم عليه الدولة؟ هل عل أساس القوة والعنف أم على أساس الحق والقانون؟

بداية نرى ضرورة الوقوف عند تحليل ألفاظ مفاهيم عبارة السؤال المطروح:

- هل: أداة استفهامية تخيرية

 بين قصتين متقابلتين قد يصرح بهما معا وقد يصرح بإحداهما ويتم إضمار الأخرى كما في حالة السؤال، أن الطابع الاستفهامي لهذه الأداة يفترض إجابتان محتملتان هما، إن أساس الدولة هو العنف، إن أساس الدولة هو الحق القانون.

- الدولة: مجموعة من المؤسسات والأجهزة تسهر على تنظيم شؤون المجتمع داخل مجال ترابي محدد وضمن مفهوم السيادة وتضم أيضا شعبا.

- الحق: هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره أي اليقين وما يجب أن يكون، ويقصد به كل ما هو مطابق لقاعدة محددة ومشروعه سواء أن كانت قانونية، أخلاقية، أم اجتماعية.

- وهو ما تسمح به القوانين الوضعية بفعله سواء كان نتيجة مبدأ يسوغ كل فعل محضور أو ما تسمح العادات والأخلاق بفعله.

- العنف: استخدام القوة استخداما غير مشروع أو غير مطابق للقانون فهو مضاد للرفق والاعتدال ومرادف للقسوة والشدة.

ينطوي السؤال على أطروحة مفترضة تقول بأن أساس الدولة هو العنف، حيث أنه لا يمكن قيامها بالاعتماد عليه أو التوسل به، فالعنف شرط ضروري لقيام واستمرار الدولة.

لكن إلى أي حد يمكن قبول التصور؟ هل هناك من مواقف تؤيد أو تخالف هذا التصور؟

الموقف المؤيد: ماكس فيبر "مشروعية العنف" يذهب ماكس فيبر في كتابه "العالم والسياسي" إلى التأكيد على أن الدولة هي الجهاز الوحيد الذي يمتلك الحق في ممارسة العنف واحتكاره إذ لا يحق لأي فرد كان أن يمارس هذا العنف المادي إلا بتفويض من الدولة نفسها كما لا يمكن في نظره الحديث عن وجود الدولة كجهاز تنظيمي في غياب العنف بوصفه الوسيلة المميزة للدولة التي تحتكر لنفسها مشروعية تنفيذ العقوبات على الأفراد وذلك باسم القانون فالعنف بهذا المعنى إذن هو الأداة المفضلة للدولة من أجل الحفاظ على النظام وضمان استمراريته، إنه عنف مشروع ومبرر، فهل يمكن القبول بهذا التصور كحل لإشكالية سلطة الدول؟ وهل العنف هو السمة المميزة الوحيدة لسلطة الدولة؟  ألا يمكن أن نجد لسلطة الدولة مسارا إنسانيا يقوم على الحق؟

        مقابل هذا التصور يمكن استحضار موقف فلسفي آخر الذي عالج الموضوع من زاوية أخرى ويتعلق الأمر هنا بالفيلسوف سبينوزا الذي يرى أن الغاية من تأسيس الدولة ليست السيادة أو إرهاب الناس وجعلهم يقعون تحت نير الآخرين بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان أي أن يحتفظ بقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير فليس العنف إذن في نظره الطريقة السليمة لتسيير دواليب الحكم لأن الدولة تعرف بالسلطة لا بالعنف لأن السلطة لها طابع التنظيم لا الفوضى.

يتبين مما سبق الطابع الإشكالي لموضوع السؤال حيث يمكن القول أنه ينطوي على عدة مفارقات فإذا كان البعض يؤكد على أن أساس الدولة والوسيلة الوحيدة التي تستمد منها مشروعيتها هي العنف فهناك في المقابل من أكد على أن العنف ليس الطريقة السليمة لتسيير وتنظيم الدولة، فما هي إذن الوسيلة الأهل التي يمكن للدولة أن تستمد مشروعيتها منها وتكون في نفس الوقت الطريقة الأساسية للحكم وهل يمكن أن تقوم الدولة على أساس ما هو عادل؟

*******
 

الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا المغربية/ الدورة الاستدراكية 2008  لاداب

«ليس التاريخ ما يصنعنا، وإنما ما نصنعه نحن جميعا.»

في ضوء القولة، بأي معنى يصنع الإنسان التاريخ؟

 

      يتأطر اشكال هذه القولة ضمن موضوع التاريخ, وبالضبط دور الإنسان في صناعة أحداث ماضيه, وقبل أن نجيب عن مضمون هذه القولة المرفقة بسؤال, تجدر الإشارة أولا, إلى دلالة ما يعنيه مفهوم التاريخ, فما دلالة هذا المفهوم؟

التاريخ في دلالته اللغوية هو معرفة بأحداث ووقائع ماضية مرتبطة بالإنسان, انه بعبارة أخرى ذاكرة الإنسان بمختلف أنشطتها المادية والفكرية.

بعد هذا التحليل لدلالة مفهومي التاريخ والصناعة, ننتقل إلى الإشكال المؤطر لمضمون السؤال والذي يمكن صياغته في التساؤل التالي:

إذا كان التاريخ هو ذاكرة الإنسان, أي سلسلة من الأحداث الماضية, فهل الإنسان فاعل ايجابي في هذه الأحداث ومتدخل في سيرورتها, أي انه الصانع الفعلي لتاريخه آم انه مجرد أداة مسخرة في يده, خاضع لمنطقه ومنفذ لغايته؟ بمعنى آخر هل للإنسان حرية داخل سيرورة التاريخ آم انه خاضع بالضرورة لهاته السيرورة؟

   كجواب عن هذا الإشكال, يلاحظ أن منطوق القولة يدافع عن الرأي الذي يرى بان الإنسان صانع لتاريخه, وقبل الإجابة عن السؤال المطروح في القولة, تجدر الإشارة أولا إلى مضمون الموقف الفكري الذي ينفي عن الإنسان كل قدرة في صناعة تاريخه, وبعدها سنرى أن ثمة موقف آخر يرى أن الإنسان صانع لتاريخه وماضيه.

وفي هذا الإطار يمكن الاستئناس بما قدمه احد الفلاسفة المحدثين, وهو الفيلسوف الألماني هيجل, فقد ذهب هذا الفيلسوف إلى القول بان سيرورة التاريخ محكومة بالروح أو المطلق الذي ينمو ويتجلى في مختلف أشكال الوعي, حتى يحقق غايته النهائية التي هي الحرية والتطابق مع مفهومه الكامل, أما الإنسان في نظر هيجل فدوره في التاريخ يتجلى من خلال ما ينجزه العظماء, الذين يجعل منهم هيجل مجرد وسائل تحقق غايات العصر والروح المطلق, وتجمع الناس حول هؤلاء العظماء ومساندتهم لهم في مشروعهم, ما هو في واقع الأمر إلا إدراك من هؤلاء, إن هذه الشخصيات التاريخية تمثل الاتجاه العميق للتاريخ, الذي هو تاريخ الروح المطلق, وليس تاريخهم الخاص, وعندما يحققون غايات الروح المطلق, تنتهي مهمتهم ويسقطون في نظر هيجل, كمثل قشور فاكهة أفرغت من نواتها, ويقدم هيجل مثالا لهؤلاء الأبطال الذين كانوا مجرد وسائل في يد الروح لتحقيق غاياتها, فهناك الاسكندر الأكبر الذي مات شابا, ونابليون بونابرت الذي نفي, فهؤلاء سقطوا كالقشور بعد أن حقق الروح التي هي النواة غاياتها.

فليس البشر إذن في نظر هيجل, بمجتمعاتهم وشعوبهم ومؤسساتهم ودولهم وإبداعاتهم, سوى تجليات مؤقتة لحركة الروح الدائبة, إنها أزياء وتجسيدات ترمز إلى مراحل من تحقق الروح, سرعان ما تتخلى عنها لتحقق ذاتها في أزياء وتجسيدات أخرى, من هنا يمكن أن نفهم قولة هيجل المشهورة "كل ما هو واقعي فهو عقلي, وكل ما هو عقلي فهو واقعي" , فكل ما وقع في التاريخ من أحداث, كان لابد أن يقع, وكل ما هو واقعي فهو معقول, لأنه يشير إلى مرحلة من مراحل تحقق الروح المطلق, وليس الرجال العظام والمجتمعات العظيمة سوى مسالك تتحقق فيها هذه الروح.

نخلص من هذا التحلل لتصور هيجل لدور الإنسان في صناعة تاريخه, وهو التصور المعبر عنه في السؤال, إن التاريخ البشري هو تاريخ الروح أو العقل المطلق, والإنسان يلعب داخل هذا التاريخ دور الممثل ودور الحامل لفكرة تتجاوزه وتتعالى عليه, لأنها من مصدر آخر غير ذاته, لكن هل يمكن القبول بهذا التصور كحل لإشكالية دور الإنسان في التاريخ؟ هل فعلا أن الإنسان داخل التاريخ هو مجرد أداة مسخرة ليس إلا في يد الروح المطلق أم أن الأمر عكس ذلك؟

     بالرغم من القيمة الفكرية والتاريخية التي تحتلها فلسفة هيجل في تاريخ الإنسانية والفلسفة على الخصوص, بحيث نقل العقل مكن طابعه الستاتيكي أي الثابت القائم على مبادئ صورية ترفض التناقض, والذي عرف مع كل ديكارت وكانط, إلى عقل دينامي, يشتغل وفق مبادئ المنطق الجدلي الذي يقوم على ثلاثة لحظات أساسية: وهي الإثبات والنفي ونفي النفي, وهي لحظات تشمل بجانب العقل الكون والطبيعة والإنسان, لكن بالغم من أهمية هذا التصور الهيجلي للعقل, كقوة لامتناهية متطورة ومنفتحة على نقائضها, فقد ظل العقل لديه ذو مسحة روحية تنأى به عن ما هو متعارف عليه في ميدان العلم, فيجل في وصفه للعقل لا يقدمه كقدرة فردية ذاتية, وإنما كعقل الهي, او كفكرة مطلقة, فهذا العقل هو الذي يحكم العالم ويمنحه النظام والانسجام, انه يتجسد في كل الحقائق الواقعية, فالأشكال السياسية والاقتصادية والاهتمامات والمصالح البشرية, ما هي إلا أدوات ووسائل مسخرة لهذا العقل الكوني, بل أكثر من ذلك فقد أوقف هيجل حركة العقل وتطوره, على المستوى السياسي في الدولة البروسية, فمعها اكتمل نضج العقل المطلق وانعكس هذا النضج على هذه الدولة, وأيضا على مستوى الدين المسيحي الذي كان هيجل من اكبر المتعصبين له, بل المطلق هو أيضا فلسفته التي كان يرى فيها خاتمة الفلسفات, وقد لاحظ نيتشه ذلك بتهكم, فالتاريخ عند هيجل هو تاريخ الروح او العقل المطلق, والإنسان داخل هذا التاريخ ما هو إلا أداة مسخرة لتحقيق غايات هذه الروح.

لقد تعرض هذا التصور المثالي للتاريخ إلى انتقاد مجموعة من المفكرين, وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني كارل ماركس, الذي رأى في الجدل الهيجلي النواة الأساسية للتطور التاريخي, لكنه جدل في نظره يمشي على رأسه, وقد وجب قلبه وإقامته على قدميه, لذا اقترح تصورا ماديا للتاريخ

كما يريد, وليس حرا حرية مطلقة, لكنه قادر على الوعي بما يعرقل نشاطه الفكري آو المادي البشري يقوم بالأساس على الصراع الطبقي, وان دور الفرد محكوم بشروط مادية, اقتصادية على الخصوص, وظروف خارجة عن إرادته. فالناس في نظر ماركس هم الذين يصنعون تاريخهم الخاص, إلا أنهم لا يفعلون ذلك عشوائيا, وضمن شروط من اختيارهم, بل شروط معطاة مسبقا وموروثة...

إن هذا التصور الماركسي المادي للتاريخ البشري, جعل السؤال حول دور الإنسان في صناعة تاريخه يطرح من جديد, ويفتح آفاقا فكرية جديدة, وهو الأمر الذي يمكن لمسه لدى الفيلسوف الفرنسي سارتر, الذي سيحاول الانفتاح على الماركسية من اجل توضيح دور الإنسان في صناعة التاريخ, وتوضيح حدود هذا الدور, وذلك من خلال تحديد طبيعة العلاقة الموجودة بين الإنسان وشروط وجوده, فعكس ما قاله "انجلز" الناس هم الذين يصنعون تاريخهم بناء على شروط واقعية سابقة, يرد عليه "سارتر" الناس هم الذين يصنعون تاريخهم وليس الشروط السابقة, وإذا ما افترضنا أن هذه العبارة صحيحة فان الناس سيصبحون محركين لقوى لا إنسانية, ستقوم بالتحكم من خلالهم في العالم الاجتماعي, صحيح أن الشروط موجودة, وهي وحدها التي يمكن أن توفر التوجيه والواقع المادي للتغيرات الموجودة في حالة استعداد, لكن حركية الممارسة الإنسانية تتجاوزها وتحتفظ بها في الوقت نفسه, لكن السؤال المطروح هو كيف يمكن تفسير انفلات التاريخ في بعض الأحيان من الإنسان, هل يمكن رده إلى القضاء والقدر؟ يجيب سارتر على هذا السؤال ويقول: إذا انفلت مني التاريخ, فليس مرد ذلك أني لا اصنعه أنا, بل مرده أن الغير يصنعه أيضا..., التاريخ إذن في نظر سارتر من صنع الإنسان, سواء كان هذا الإنسان أنا أو الغير, وليس كما يظن القدر أو الصدفة.

      نستنتج من تحليل ومناقشة القولة المرفقة بسؤال, والمواقف المؤيدة والمعارضة, انه بالرغم ن محاولة ماركس منح التاريخ الإنساني طابعا واقعيا مرتبطا بظروف الناس المادية, فهو لم يخرج عن ما قدمه أستاذه هيجل, من رسم منطق خاص لحركية التاريخ, تنتهي عند حدود معينة, وينتفي من داخلها الفعل الإنساني, بحيث يصبح أداة طيعة بيد حركة هذا التاريخ, وهنا يصبح التصور السارتري إلى حد ما مقبولا, حين يطرح إمكانية صنع الإنسان لتاريخه, رغم ما يعرفه هذا الإنسان كشخص أحيانا من اكراهات, تقف حجرة عثرة أمام مشروعه التاريخي, وهو القول الذي يمكن أن ينسجم مع هوية الإنسان كشخص, تلك الهوية التي تتشكل من أبعاد متعددة متداخلة فيما بينها, فيها ما هو ذاتي أي الوعي والإرادة, وفيها ما هو موضوعي أي الظروف المادية والبيولوجية والاجتماعية منها والاقتصادية, كل هذه العناصر تدفعنا إلى القول بدو نسبي للإنسان كشخص في صناعة تاريخه, وهذا الدور لا ينقص من قيمة الإنسان, بل يرسم له الحدود الممكنة للتصرف بحرية في صنع تاريخه, وهذا التصرف رهين هو أيضا بامتلاك الإنسان لقدر من الوعي بماضيه, ولما يروم تحقيقه في المستقبل, فالإنسان ليس خاضعا مطلقا لقدر يتصرف به وبتاريخه.     



 

هل الشعور كاف لإثبات الحرية ؟

يذهب بعض الفلاسفة من أنصار الحرية إلى أن الإنسان حر وأن أفعاله صادرة عنه وهو قادر على الشعور بها وعلى الشعور بأنه هو الذي يؤديها وقادر على تركها أو القيام بها فالحرية مجرد حالة شعورية يعيشها الإنسان وشهادة شعوده تكفي لإثبات وجودها .

حيث نجد في الفكر الفلسفي الإسلامي موقف المعتزلة والذي يعرضه أحد علمائها " الشهرستاني " حيث يقول " إن الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف إذا أراد الحركة تحرك و إذا أراد السكون سكن ومن أنكر ذلك جحد الضرورة ويقول " ديكارت " إننا جد متأكدين من الحرية وليس هناك شيئا نعرفه بوضوح أكثر مما نعرفها " .

كما يقول " جاك بوسويه " : " كلما أبحث في أعماق نفسي عن السبب الذي يدفعني إلى الفعل لا أجد فيها شيئا إلا حريتي وهنا أشعر شعورا واضحا بحريتي " . وهكذا تكون الحرية حالة شعورية , والشعور بالحرية يكفي دليلا على وجودها .

- لكن الشعور قد يكون مضللا لصاحبه , فكثيرا ما نكون متأكدين من أمر ما أنه حقيقة لكن لا نلبث أن نكتشف أننا كنا مخطئين .

الشعور لا يكفي دليلا لإثبات الحرية / الحرية قائمة على العمل والممارسة .

يذهب بعض الفلاسفة والعلماء وخاصة أنصار الحتمية والمحدثين منهم أن الحرية ليست مجرد شعور بل هي عمل وممارسة يومية إذ نجد في الفكر الإسلامي موقف الجبرية بزعامة " جهم بن صفوان " حيث يرون أن الله هو القادر وهو الفاعل فلا إرادة للإنسان أمام إرادة الله المطلقة . فكل ما يفعله الإنسان مقدر عليه من قبل الله وإلى رأي قريب من هذا الرأي يذهب سبينوزا الذي يقول : " الإنسان مجبر على فعل الفعل بعلة ما " .

أما في الفكر الحديث فالحرية لم تعد حالة جاهزة يعيشها الإنسان بل هي الغاية التي يسعى إلى تحقيقها عن طريق العمل الذي يمكنه من تجاوز الحتمية ولعل " كارل ماركس " أهم من عالج مشكلة الحرية انطلاقا من واقع إنساني مليء بالقيود يناضل فيه المرء من أجل التحرر .

والتحرر يقتضي ربط الفكر بالعمل من أجل إدراك الحتميات ثم تجاوزها وهناك يقول كارل ماركس : " إن الحرية وعي بالقيد " والعمل من أجل التحرر يكون على مستويات ثلاث :

أ- التحرر على مستوى الذات , ب – التحرر على مستوى المجتمع , ج- التحرر على مستوى الطبيعة وهكذا فالمهم في نظر كارل ماركس ليس أن نفهم العالم ولكن أن نفسره ونطوره " .

- لكن التحرر الذي يهدف إليه الإنسان يجب أن يكون واعيا ومخططا له و هو ما يتطلب عملية الفهم والوعي والشعور بالقيد أولا ثم العمل على تجاوزه بطريقة تجعله مسخرا لخدمة الإنسان .

* الحرية قائمة على الشعور بالقيد ثم العمل على تجاوزه :

الحرية لا تخلو من الشعور ولكن الشعور وحده لا يثبت الحرية كما أن العمل ضروري لتحقيق الحرية ولكن العمل المقرون بالوعي والشعور أفضل وأسلم للبشرية جمعاء , فالتقدم والتطور ( الصناعة ) الذي يمر بتدمير الطبيعة ( الغلاف الجوي ) لا يحقق للإنسان حريته .

الخاتمة : الحرية هي ذلك الفعل الواعي الذي يتحقق مع الإنسان باستمرار فبقدر ما يمتلك الإنسان من العلم والمعرفة بقدر ما يكتشف القيود وبقدر ما يعمل على تجاوز هذه القيود بقدر ما يحقق حريته.

 

 

 

هل يمكن إقامة الأخلاق على أساس العقل وحده ؟

إن المذاهب الأخلاقية وجدت نتيجة محاولة الفلاسفة فهم و تفسير الأخلاق العملية أي السلوك اليومي للناس ولذلك فأول خلاف واجهته هذه المذاهب هو أساس القيم الأخلاقية , وقد تعددت المذاهب الأخلاقية تبعا لتعدد هذه الأسس , والتي من أهمها العقل . فهل يمكن اعتبار العقل أساسا وحيدا للقيم الأخلاقية ؟ بمعنى آخر هل يمكن أن يجمع الناس كلهم على الأخلاق تبنى على العقل وحده ؟

يذهب بعض الفلاسفة إلى أن  العقل هو الذي يصنع القيم الأخلاقية و أن القيم الأخلاقية تتمثل في الفضيلة . حيث كان " سقراط " يقول : " أن العقل مصدر الفضيلة والخير الأسمى " إلا أن هذا الموقف بعثه من جديد وبقوة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ( 1724-1804) االذي كان يرى أن العقل هو أساس القيم الأخلاقية , و ان هناك مبدأ واحد يعتبره الناس خيرا وهو الإرادة الخيرة ( النية الطيبة ) هي وحدها خيرا مطلقا , وهي لا تقاس بنتائجها و إنما بمبدئها الذاتي , ومن ثم بالأوامر الأخلاقية نوعان :

أ- الأوامر الشرطية : ونعني بها القيام بالفعل لخير مطلوب ( غاية ) .

ب- الأوامر القطعية : القيام بالفعل لغاية ذاتية ( الحق من أجل الحق ) وهو وحده فعل الأخلاقي مثل التاجر الذي يستقيم مع زبائنه يفعل ذلك طبقا للواجب , ولكنه بدافع المنفعة لا الواجب , والإرادة الخيرة تعمل بدافع الواجب لا طبقا للواجب , ولهذا سميت أخلاق كانط بأخلاق الواجب .

مناقشة : يعاب على أخلاق كانط أنها نظرية وصورية ولا تهتم إلا بالأخلاق التي تتطابق مع أوامر العقل , وتهمل الأخلاق النابعة عن الشعور , بينما يتصرف الناس حسب شعورهم أكثر مما يتصرفون حسب عقولهم .

لقد وجدت الكثير من الأسس الأخلاقية قبل كانط , منها مبدأ اللذة الذي كان يعتبر في نظر أرستيب القورينائي هو الخير المطلق حيث قال " ... اللذة هي الخير الأعظم , وهي مقياس القيم جميعا ..." ثم عمل أبيقور على تطوير مذهب اللذة إلى منفعة حيث كان يرى أنه هناك لذة أفضل من لذة أخرى ... فاللذة العقلية أفضل من اللذة الحسية ... ثم عمل بنتام على تطوير مذهب المنفعة حيث وضع لها مقاييس .

كما وجد فلاسفة الإسلام في الدين المبدأ الملائم لإقامة الأخلاق لأن العقل وحده قاصر لا يملك القدرة على التميز بين الخير و الشر دائما . كما أن الواجبات الدينية كلها سمعية " أفعل ما تؤمر " آية . ودليلهم على ذلك اختلاف القيم باختلاف الديانات . وإرادة الله مطلقة  اختيار لإرادة الإنسان فيها . ويمكن إقامة الاختلاف على أسس أخرى كما فعل بعض الفلاسفة الآخرون كأصحاب النزعة الاجتماعية " المجتمع " .

مناقشة : لا يمكن بناء الأخلاق على اللذة وحدها , أو المنفعة وحدها لأن المنافع متعارضة ( مصائب قوم عند قوم فوائد ) كما أن الدين لم يوجد عند جميع الشعوب .

لا يمكن أن نبني الأخلاق على مبدأ واحد , حتى لو كان العقل أو الدين نظرا إلى أن القيم الأخلاقية نسبية متغيرة عبر الزمان والمكان وهي تابعة لشروط مختلفة تتحكم فيها . فالمجتمع الإسلامي يتمسك بالدين أولا و بالعقل ثانيا كمبدأين أساسين في إقامة الأخلاق دون إهمال باقي المبادئ الأخرى .

الخاتمة : معيار الفعل الأخلاقي ليس واحد , فقد تعددت مبادئ القيمة الأخلاقية بتعدد المذاهب الأخلاقية . لكن الأخلاق الإسلامية تركيبية شاملة لما تحتويه المذاهب الأخرى .

يقول جون بول سارتر : لا يوجد غيري فأنا وحدي الذي أقرر الخير واخترع الشر " حلل وناقش " يطلق لفظ الأخلاق على جميع الأفعال الصادرة عن النفس محمودة كانت أو مذمومة فالمحمود منها يعرف بالخير والمذموم منها يعرف بالشر , وهما المحوران اللذان يدور حولهما علم الأخلاق, و إذا كان سارتر قد أرجع الخير والشر إلى الفرد فهل مصدر القيمة الأخلاقية ذاتي دائما ؟ بمعنى هل الخير والشر من صنع الإنسان أم أن هناك أطرافا أخرى يمكنها صناعة القيم الأخلاقية ؟

 

ذهب سارتر إلى أن مصدر القيمة الأخلاقية هو الفرد , فهو الذي يقرر الخير وهو الذي يخترع الشر , فتصور سارتر الإنسان على أن كائن لذاته , وتصور سارتر للنشاط الإنساني على أنه حر , وأن ماهية الإنسان هو ما يوجده بنفسه ( الوجودية ) يشتمل على فلسفة سارتر الأخلاقية والتي تنطلق من الذات فيترتب عليها أن الإنسان هو الذي يضع القيم فيضع الخير والشر . وبذلك فهو يعدم وجود الغير وقدرة الغير في وضع القيم وعلى هذا كانت المسؤولية مطلقة عند سارتر .

غير أن هذا الرأي نجده عند أنصار النزعة التجريبية والنزعة العقلية على حد سواء , فالتجريبيون يرجعون مصدر القيم الأخلاقية إلى التجربة و الممارسة الفردية , التي تتطور إلى عادة اجتماعية , كما أن العقليون يرون أن مصدر القيم الأخلاقية هو العقل الإنساني إذ به نحكم على الأشياء وبه نميز بين الخير والشر وبالتالي فالفرد مصدر القيم الأخلاقية .

- لكن الفرد ليس المصدر الوحيد للقيم الأخلاقية , فإقصاء الغير في صناعة الأخلاق أمر لا يثبته الواقع , كما أن التجربة الفردية مختلفة و متناقضة والعقل قاصر لا يهدي صاحبه في جميع الأحوال القيمة الأخلاقية موضوعية : القيم الأخلاقية مصدرها المجتمع والدين .

إن الأخلاق في نظر آخرين من الفلاسفة على خلاف " سارتر" تنبع من المجتمع ومن الدين حيث يرى أنصار النزعة الاجتماعية أن القيم الأخلاقية نابعة عن تأثير الجماعة في الفرد حيث يقول " دور كايم " : " إذا استنكر أحدنا الفاحشة فلأن المجتمع يستنكرها " . كما يرى أنصار الاتجاه الديني أن القيم الأخلاقية صادرة عن الوحي ( فالتعليم الدينية مصدر القيم الأخلاقية ) فهي جاءت لكي تساعد العقل على إدراك الخير والشر .

هذا الموقف الديني نجده بوضوح عند مفكري الإسلام خاصة موقف الأشاعرة الذي يعتبر الدين مصدر الخير والشر فالواجبات في نظرهم سمعية كلها " افعل ما تؤمر " آية . باعتبار أن القيم مختلفة باختلاف الدين .

- لكن الفرد قد يحدث ثورة فكرية , وأخلاقية ويخرج عن العرف ويغير قواعد المجتمع , كما أن المثل الأعلى الوارد عن طريق الوحي قد ينعدم لدى بعض الشعوب وتبقى لديهم أخلاقهم الخاصة .

القيمة الأخلاقية ذاتية وموضوعية : القيم من صنع أطراف مختلفة .

من القيم الأخلاقية ما هو صادر عن الفرد وتبقى هذه الأخلاق محل اختلاف بين الناس , ومن القيم ماهو صادر عن المجتمع كالعادات و التقاليد وهي متغيرة من جماعة لأخرى , و من القيم ما هو صادر عن الوحي كأخلاق المسلمين وما يتعلق بالحلال والحرام وهي تتمتع بالثبات .

إن موقف سارتر من الأخلاق لا يمكن التسليم به , إذ ليس بإمكان الفرد أن يقرر وحده الخير والشر , رغم أنه قادر على إبتكار القيم الأخلاقية وقادر على الالتزام بها أو تركها . فالقيم الأخلاقية تصنعها أطراف مختلفة الفرد , المجتمع , الدين .

 

نص السؤال : هل يمكن إقامة العدل بمجرد تحقيق المساواة ؟

إذا كان العدل هو الاستقامة في الاستحقاق , وهو الاعتدال أي التوسط بين الإفراط والتفريط , فإن مسألة تحقيق العدل ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة المساواة مثلما ترتبط فكرة الظلم بإحداث التفاوت بين الناس وعليه فهل العدل يكمن في تحقيق المساواة واحترامها أم أن العدل يكمن في إقامة التفاوت بين الناس واحترامه ؟

يذهب بعض الفلاسفة من أنصار التفاوت إلى أن العدل يكمن في احترام التفاوت القائم بين الناس , و أيضا في إقامته بينهم , لأن الناس يختلفون بالولادة في قدراتهم العقلية والجسمية ( الذكاء والغباء , القوة والضعف ) و ليس من العدل أن نسوي بينهم بل العدل يكمن في التمييز بينهم وعلى هذا الأساس قام المجتمع اليوناني القديم حيث أن " أفلاطون " : في جمهوريته الفاضلة يميز بين صنفين من الناس العبيد بقدرات عقلية محدودة وأوكل لهم العمل اليدوي والأسياد يملكون القدرات العقلية الهائلة أوكل إليهم العمل الفكري كالأشغال بالفلسفة . كما نظر " أرسطو " بعده إلى التفاوت على أنه قانون الطبيعة ويجب احترامه . ونجد هذا الموقف عند بعض المحدثين حيث يقول " ألكسيس كاريل Alexis Karel " ( عالم فيزيولوجي وجراح فرنسي : " فبدلا من أن نحاول تحقيق المساواة بين اللامساواة الجسمية والعقلية يجب أن نوسع من دائرة الاختلافات وننشئ رجالا عظماء ") وهكذا يكون التفاوت عدل بينما المساواة ظلم .

حقيقة الناس مختلفون بالطبيعة والتفاوت بينهم أمر طبيعي ومقبول لكن البعض يتخذ من التفاوت الطبيعي ذريعة لإقامة التفاوت الاجتماعي المصطنع من قبل طبقات اجتماعية مسيطرة لذا ينبغي تحقيق المساواة بين الناس .

يذهب البعض الآخر من الفلاسفة وهم أنصار المساواة إلى أن العدل يكمن في تحقيق المساواة بين الناس ن التفاوت القائم بين الأفراد يعود في معظمه إلى تأثير المجتمع لا إلى تأثير الطبيعة . فالطبيعة لم تخلق طبقة الأسياد وطبقة العبيد كل هذا من صنع المجتمع , وقد وجدت هذه الفكرة لدى المجتمعات القديمة حيث قال أحد حطباء اليونان وهو شيشرون : " الناس سواء وليس شيئا أشبه بشيء من الإنسان بالإنسان ... " وقال " عمر بن الخطاب " :  " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " . كما نجد هذا الموقف أكثر رواجا عند فلاسفة العصر الحديث ومنهم " برودون " ( فيلسوف و عالم اجتماعي فرنسي 1809-1865) الذي يقول : " إن العدل يكمن في احترام الكرامة الإنسانية " بينما يدعو " كانط " في كتابة مشروع السلام الدائم إلى نظام دولي جديد ترتكز فيع العلاقات على الديمقراطية والمساواة والعدل و هكذا فإن الاعتماد على التفاوت في تحقيق العدل فيه ظلم للناس .

حقيقة العدل بهذا المعنى أقرب إلى المساواة منه إلى التفاوت ولكن لا يمكن اعتبار كل مساواة عدل ولا يمكن أن نسوي بين الناس في كل شيء لأن المساواة المطلقة فيها ظلم لبعض الناس

العدل يكمن في تحقيق المساواة مع احترام التفاوت الطبيعي :

لا يمكن اعتبار كل مساواة عدل كما لا يمكن اعتبار كل تفاوت ظلم فإن المساواة التي يأمل فيها الإنسان لا تتنافى والتفاوت الصادر عن الطبيعة , فالعادل من الناس هو المستقيم الذي يسوي بين الناس أمام القانون و يحترم حقوقهم دون تدخل الاعتبارات الشخصية و لا يظلم في حكمه أحد و هكذا سوف تظهر الكثير من الصفات النبيلة كالكفاية والاستحقاق وتختفي الكثير من الصفات الرذيلة كالتمييز العنصري .

لا يمكن تحقيق المساواة المطلقة بين الناس لأنهم متفاوتون في القدرات الجسمية والعقلية ولا يمكن محو ظاهرة التفاوت من حياة الناس لأنها طبيعة فيهم , وعليه فالعدل يكمن في تحقيق المساواة بين الناس أمام القانون .

نص السؤال : أيهما أجدر بتحقيق العدالة : القانون أم الأخلاق ؟

إذا كان القانون جملة القواعد العملية المفروضة على الإنسان من الخارج لتنظيم شؤون حياته .و الأخلاق إلزام داخلي يأمر وينهي في مجال الخير والشر فكلاهما يهتم بالإنسان ولكن من زاويتين مختلفتين لهذا يطرح السؤال أيهما أجدر بتحقيق العدالة الاجتماعية ؟

يرى أنصار الاتجاه السياسي أن القوانين هي التي تحقق العدالة الاجتماعية لأن القانون هو الحارس الأمين للنظام الاجتماعي والموجه لسلوك الأفراد والمنظم لعلاقاتهم لدرجة أن الحياة الاجتماعية لا تستقيم بدونه يقول " مونتيسكو" : " ليس هناك من ظلم أو عدل إلا ما تأمر به أو تنهى عنه القوانين الوضعية "

ويقول أبو العلاء المعري :

قد فاضت الدنيا بناسها * على براياها و أجناسها

كل من فوقها ظالم * وما بها أظلم من ناسها

ويقول " شو بنهاور"  :" الأخلاق من صنع الضعفاء حتى يقوا أنفسهم من شر الأقوياء " .

وحجتهم في ذلك أن الطبيعة البشرية شريرة , وبالتالي لا يمكن قيام عدالة اجتماعية على الأخلاق .

نقد : أصحاب هذا الاتجاه أهملوا الجانب الخير في الإنسان ونظرتهم تشاؤمية إذ أن القوانين كثيرا ما تكون جائزة كما في مقدرة الإنسان الإفلات منها وتجاوزها.

يرى أنصار الاتجاه الأخلاقي أن الضمير الخلقي كإلزام داخلي جدير بتحقيق العدالة الاجتماعية لأنه يتابع صاحبه أينما حل .

يقول " برغسون " : " الأخلاق من ابتكار الأبطال لفائدة الإنسانية جمعاء " .

يقول كانط : " شيئان يملآن إعجابي سماء مرصعة بالنجوم وضمير يملأ قلبي "يقول انجلز : " الأخلاق من صنع الأقوياء " .

وحجتهم في ذلك أن القانون لا يستطيع مراقبة الفرد وبالتالي يمكنه الإفلات منه ولكنه لا يستطيع الإفلات من ضميره هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الإنسان خيرة.

لكن هناك من يتميز بضعف الضمير وبنية مريضة وبالتالي لا ينبغي تركهم وشأنهم . كما أن بناء العدالة على الأخلاق معناه إخضاعها للعاطفة والعاطفة متقلبة ومتغيرة .

وعليه العدالة الاجتماعية تتحقق بالجمع بين القانون والأخلاق و لا يمكن قيامها بأحدهما دون الأخرى إن قيام العدل يقتضي التقيد بالصالح العام وهذا يفرض علينا احترام القانون أخلاقيا كان أو اجتماعيا .

إن التعامل في العلاقات الإنسانية وقيام العدالة الاجتماعية يتم بالقانون الذي يعتمد على العقل وبالأخلاق التي تعتمد على العاطفة فإذا كان القانون يمثل روح هذه العلاقات فإن الأخلاق يمثل حرارتها .

 

النص لـ غاستون باشلار Gaston Bachelard :

النص : إن العلم سواء في بحثه عن الاكتمال أو من حيث المبدأ يعارض الرأي معارضة تامة , وإذا اتفق له في مسألة ما أن قبل الرأي وصدقة , فإن ذلك لأسباب أخرى غير تلك التي يقوم عليها الرأي , بحيث يأتي الرأي دائما من حيث المبدأ على خطأ . إن الرأي يسيء التفكير , إذ هو لا يفكر و إنما يترجم الحاجات والميول إلى معارف , وما دام يشير إلى الأشياء بمنافعها , فهو يحجب نفسه بذلك عن معرفتها , لا يمكن تأسيس أي شيء على الرأي , وإنما يجب البدأ بتحطيمه , إنه يشكل العائق الأول الذي يجب تجاوزه .

لا يكفي أن يعمد الإنسان إلى تصحيح الرأي في بعض النقاط الخاصة مثلا وأن يحتفظ هكذا بمعرفة عامية على غرار ضرب من الأخلاق المؤقتة .

إن الروح العلمية تمنعنا من تكوين أي رأي في مسائل لا نفقهها ولا نعرف كيف نصوغها صياغة واضحة .

قبل كل شيء , يجب أن نعرف كيف نطرح المشاكل , ومهما يكن فإن المشاكل في ميدان العلم لا تطرح نفسها تلقائيا , وهذا الحس الإشكالي بالضبط هو العلامة على الروح العلمية الحقيقية .

كل معرفة في نظر الروح العلمية تعد إجابة على سؤال , وإذا لم يكن هناك سؤال فلا مجال للحديث عن معرفة علمية , ليس هناك ما يتم تلقائيا , ليس هناك ما هو معطى , ولا يوجد إلا ما هو مبني .

حلل النص وناقشه

إن العلم في ملاحقته لموضوعه الخارجي وفي محاولته تفسير ما هو موجود يسعى دائما إلى التخلص من الأهواء الذاتية والرغبات الشخصية , ويسمو فوق المعرفة الحسية المباشرة لأن الواقع العلمي ليس هو الواقع العفوي الذي جرت ملاحظته بصفة عابرة , فالأحكام التي نستمدها من ثقافتنا الشعبية والتي نعتمد عليها في تفسير ما يصادفنا من ظواهر هي مجرد أراء ساذجة وهي ليست من العلم في شيء , وأكثر من ذلك أن هذه الآراء كثيرا ما تعيق العلم وتصده عن غاياته وهذا دفع ببعض الفلاسفة والعلماء في إطار الدراسات النقدية الحديثة في المجال العلمي أو ما يعرف بفلسفة العلوم , ومن هؤلاء صاحب النص غاستون باشلار إلى إحداث ثورة على الأفكار السابقة لأنها سببا في إعاقة العلم على التطور , وعليه فما مدى التعارض القائم بين العلم والرأي ؟ بمعنى آخر , هل يمكن لمعارفنا الساذجة أن تتطور وتصبح علوما ؟

غاستون باشلار فيلسوف فرنسي عاش ما بين 1884-1962 اهتم بتاريخ العلوم وبفلسفتها , مؤلفاته تدور حول موضوعين أساسيين أهمهما " نظرية المعرفة العلمية Epistemologie " ثم ربط النزعة النزعة الشعرية بالتحليل النفسي , والعلاقة بين الموضوعين أن النظريات العلمية تدمير للنظرات الشعرية , كما يدعو باشلار من خلال فلسفته إلى ديالكتيك سلبي Dialectique du Non و السلب أو الرفض عند باشلار يعني حركة تدمير وإعادة بناء للمعرفة . من أهم آثاره " تكوين الروح العلمية " و " فلسفة الرفض " وله كتب أخرى عن الشعر .

تتلخص آراؤه الفلسفية في أن العلم لا يتقدم بالبناء على أساس المعارف وإنما يتقدم بناءا على اكتشاف الأخطاء في تلك المعارف السابقة , وإن فائدة تاريخ العلم هي أن نبين كيف أن ما نعده اليوم نظرية علمية صحيحة قد مر بالعديد من النظريات الذي ثبت خطؤها في مرحلة تالية . أما فيما يخص موقفه من المشكلة المطروحة في النص و المتمثلة في العلاقة بين العلم و الرأي , فهو يرى أن العلم يعارض الرأي معارضة تامة , وإن حدث وأن جاء العلم مطابقا للرأي فلا يعني أن العلم يقبل الرأي أو يصدقه فهما متعارضان في المبدأ و في الغايات , فالرأي ذاتي والعلم موضوعي وبالتالي لا يمكن بناء ما هو موضوعي على ما هو ذاتي بل يجب على العلم أن يقطع صلته بالرأي من أجل بلوغ الحقيقة وهو ما يعرف عند باشلار " القطيعة الابستمولوجية " .

وقد اعتمد غاستون باشلار على كثير من الأدلة العقلية والمنطقية التي تثبت أن العلم في جوهره يختلف عن الرأي والمقارنة بينهما جديرة بأن تظهر ذلك . فالرأي من حيث المبدأ يكون على خطأ دائما لأنه يفكر و إنما يترجم حاجاته وميولاته إلى معارف , وما دام الرأي على هذا النحو لا يجوز بناء أي شيء عليه بل يجب تحطيمه قبل بداية البحث فهو العائق الأول يضاف إلى العوائق الأخرى التي تصادف الباحث " العوائق الابستمولوجية " إذ ليس من العلم أن نصحح بعض آرائنا المسبقة ونبقي على البعض الآخر أو أن نكون آراء حول مسائل لم نبحث فيها .

وبالتالي فمن خصائص الرأي أو المعرفة الساذجة أنها نفعية وذاتية وخاطئة وهذا لا يؤهلها لأن تكون علما , بل أن المعرفة العلمية تقتضي قطع كل صلة بها حتى تكون موضوعية وحقيقية . هذا بالإضافة إلى أن الواقع العلمي في نظر باشلار هو واقع مبني , والبناء العلمي للظاهرة يتطلب سلسلة من الحيل والإجراءات التي يقوم بها الباحث يذكر منها القدرة على طرح المشكل العلمي , وهذه القدرة لا تتوفر إلا إذا كان العالم يتمتع بحس إشكالي - وهو الشعور بعدم القدرة على تفسير الظاهرة المشكل بالاعتماد على المعارف المتوفرة – لأن قيمة البحث العلمي تتحدد تبعا لقيمة السؤال الذي يبعثه فمنه تبدأ عملية البناء , فالعلم يجعل من العالم المدرك حسيا عالما مبنيا ينطلق من طرح السؤال مرورا بالتقنيات الإجرائية المختلفة إلى الممارسة اليدوية التي يباشرها المجرب إلى الاكتشاف , وبقدر ما يتم بناء الحادثة العلمية بقدر ما يبعدها عن صورتها الخام , وعلى هذا الأساس فإن المعرفة العلمية تتميز بكونها معرفة موضوعية ونظرية تهدف إلى الحقيقة انطلاقا من طرح المشكلات فتصبح الظاهرة العلمية وكأنها صنعت من طرف العالم . وهكذا يكون غاستون باشلار قد بين التعارض القائم بين المعرفتين العلمية و العامية بالاعتماد على بيان خصائص كل منهما والمقارنة بينهما .

إن البرهنة التي اعتمدها غاستون باشلار صحيحة من الناحية العقلية , ولكن إذا رجعنا إلى الواقع , فإننا نجد كثيرا من العلوم اعتمدت في تطورها على معارف سابقة من أراء غير علمية وأحكام ذاتية وتاريخ العلم يثبت أن كل علم مسبوق بمحاولات ولو فاشلة مما يجعل الرأي صالحا لأن يكون منطلقا في بناء صرح العلم , وقد قامت نظرية أوغست كونت Auguste Comte في تطور الفكر والعلم على تتابع الأحوال الثلاث ( اللاهوتية , الميتافيزيقية , الوضعية ).

إن المعرفة العلمية معرفة موضوعية يتجرد فيها الباحث عن ذاتيته بآرائها وأهوائها وغاياتها , ويسمو فوق المعرفة الحسية المباشرة ويبني الظاهرة العلمية بناءا يجعلها مميزة عما هي عليه في شكلها الخام , مما يؤكد وجود تعارض بين الحالة التي يؤسس عليها العلم والحالة التي يعيشها الإنسان برأيه في الأشياء , ولكن هذا لا يمنع العلم من أن يتخذ من الرأي أرضية في بناء صرحه العالي والمتين أحيانا .

 

نص السؤال : هل للتاريخ مقعدا بين العلوم الأخرى ؟

إن العلوم الإنسانية هي مجموع الاختصاصات التي تهتم بدراسة مواقف الإنسان وأنماط سلوكه , وبذلك فهي تهتم بالإنسان , من حيث هو كائن ثقافي , حيث يهتم علم النفس بالبعد الفردي في الإنسان ويهتم علم الاجتماع بالبعد الاجتماعي , ويهتم التاريخ بالبعدين الفردي والاجتماعي معا لدى الإنسان , فالتاريخ هو بحث في أحوال البشر الماضية في وقائعهم وأحداثهم وظواهر حياتهم وقال عنه ابن خلدون : " انه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم , وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال " ... وبناء على هذا فإن الحادثة التاريخية تتميز بكونها ماضية ومن ثمة فالمعرفة التاريخية معرفة غير مباشرة لا تعتمد على الملاحظة ولا على التجربة الأمر الذي يجعل المؤرخ ليس في إمكانه الانتهاء إلى وضع قوانين عامة والعلم لا يقوم إلا على قوانين كلية وعلى هذا الأساس فهل هذه الصعوبات تمنع التاريخ من أن يأخذ مكانه بين مختلف العلوم الأخرى ؟ أو بمعنى آخر هل خصوصية الحادثة التاريخية تمثل عائقا أمام تطبيق الأساليب العلمية في دراستها ؟ أي هل الاعتراض على القول بان التاريخ علم له ما يبرره ؟

يذهب بعض المفكرين إلى أن الحوادث التاريخية لا تخضع للدراسة العلمية لأن الخصائص التي تقوم عليها الحادثة التاريخية تمثل عائقا أمام  تطبيق الأساليب العلمية في دراستها , ومن هذه الخصائص أن الحادثة التاريخية حادثة إنسانية تخص الإنسان دون غيره من الكائنات , واجتماعية لأنها لا تحدث إلا في مجتمع إنساني فالمؤرخ لا يهتم بالأفراد إلا من حيث ارتباطهم وتأثير في حياة الجماعة , وهي حادثة فريدة من نوعها لا تتكرر , محدودة في الزمان والمكان ... وبناء على هذه العوائق التي تقف أمام تطبيق الدراسة العلمية في التاريخ قامت اعتراضات أساسية على القول أمام تطبيق الدراسة العلمية في التاريخ قامت اعتراضات أساسية على القول بأن التاريخ علم منها : انعدام الملاحظة المباشرة للحادثة التاريخية كون حوادثها ماضية وهذا على خلاف الحادث العلمي في الظواهر الطبيعية فإنه يقع تحت الملاحظة المباشرة , ثم استحالة إجراء التجارب في التاريخ وهو ما يجعل المؤرخ بعيدا عن إمكانية وضع قوانين عامة , فالعلم لا يقوم إلا على الأحكام الكلية كما يقول أرسطو : " لا علم إلا بالكليات " . هذا بالإضافة إلى تغلب الطابع الذاتي في المعرفة التاريخية لأن المؤرخ إنسان ينتمي إلى عصر معين ووطن معين ...الخ , وهذا يجعله يسقط ذاتيته بقيمها ومشاغلها على الماضي الذي يدرسه ثم إن كلمة علم تطلق على البحث الذي يمكن من التنبؤ في حين أن نفس الشروط لا تؤدي إلى نفس النتائج وبالتالي لا قدرة على التنبؤ بالمستقبل في التاريخ .

إنه مما لا شك فيه أن هذه الاعتراضات لها ما يبررها من الناحية العلمية خاصة غير أنه ينبغي أن نؤكد بأن هذه الاعتراضات لا تستلزم الرفض القاطع لعملية التاريخ لأن كل علم له خصوصياته المتعلقة بالموضوع وبالتالي خصوصية المنهج المتبع في ذلك الموضوع فهناك بعض المؤرخين استطاعوا أن يكونوا موضوعيين إلى حد ما وان يتقيدوا بشروط الروح العلمية .

يذهب بعض المفكرين إلى القول بأن الذين نفوا أن تكون الحوادث التاريخية موضوعا للعلم لم يركزوا إلا على الجوانب التي تعيق الدراسة العلمية لهذه الحوادث فالظاهرة التاريخية لها خصوصياتها فهي تختلف من حيث طبيعة موضوعها عن العلوم الأخرى , وبالتالي من الضروري أن يكون لها منهج يخصها . وهكذا أصبح المؤرخون يستعملون في بحوثهم منهجا خاصا بهم وهو يقترب من المنهج التجريبي ويقوم على خطوط كبرى هي كالآتي :

فبعد اختيار الموضوع يبدأ المؤرخ بجمع الوثائق والآثار المتبقية عن الحادث فالوثائق هي السبيل الوحيد إلى معرفة الماضي وفي هذا يقول سنيويوس : " لا وجود للتاريخ دون وثائق , وكل عصر ضاعت وثائقه يظل مجهولا إلى الأبد " .

فبعد الجمع تكون عملية الفحص والنظر و التثبت من خلو الوثائق من التحريف والتزوير , وهو ما يعرف بالتحليل التاريخي أو النقد التاريخي وهو نوعان : خارجي ويهتم بالأمور المادية كنوع الورق والخط .. وداخلي و �ه�م �المضمون كتفسير محتوب�ض�اص و تحديد م�ناه الحقيقي وهنا فإن المؤرخ مدعو لأن يعيش روح العصر الذي يدرسه . وفي هذا يقول ابن خلدون عن التاريخ : " فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبيت يفيضان بصاحبهما إلى الحق ... لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ... فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم و الحيد عن جادة الصدق ".

تنتهي عملية التحليل إلى نتائج جزئية مبعثرة يعمل المؤرخ على تركيبها في إطارها الزمكاني فيقوم بعملية التركيب مما قد يترتب عن ذلك ظهور فجوات تاريخية فيعمل على سدها بوضع فروض مستندا إلى الخيال والاستنباط ثم يربط نتائجه ببيان العلاقات التي توجد بينهما وهو ما يعرف بالتعليل التاريخي . وهكذا فإن المؤرخ في طلبه للحقيقة يتبع منهجا خاصا لأن الظاهرة التاريخية تختلف من حيث طبيعة موضوعها عن العلوم الأخرى وعليه فالتاريخ علم يتوخى الوسائل العلمية للتأكد من صحة حوادث الماضي .

انه مما لا شك فيه أن علم التاريخ قد تجاوز الكثير من الصعوبات التي كانت تعوقه وتعطله ولكن رغم ذلك لا يجب أن نبالغ في اعتبار الظواهر التاريخية موضوعا لمعرفة علمية بحتة , كما لا يجب التسليم بأن الدراسات التاريخية قد بلغت مستوى العلوم الطبيعية بل الحادث التاريخي حادث إنساني لا يستوف كل شروط العلم .

إن للحادثة التاريخية خصائصها مثلما للظاهرة الحية أو الجامدة خصائصها وهذا يقتضي اختلافا في المنهج وهذا جعل من التاريخ علما من نوع خاص ليس علما استنتاجيا كالرياضيات وليس استقرائيا كالفيزياء و إنما هو علم يبحث عن الوسائل العلمية التي تمكنه من فهم الماضي وتفسيره وعلى هذا الأساس فإن القول بأن التاريخ لا يمكن أن يكون لها علما لأنه يدرس حوادث تفتقر إلى شروط العلم أمر مبالغ فيه , كما أن القول بإمكان التاريخ أن يصبح علما دقيقا أمر مبالغ فيه أيضا وعليه فإن الحوادث التاريخية ذات طبيعة خاصة , مما استوجب أن يكون لها منهجا خاصا بها . وبالتالي فالتاريخ علم يحدد موضوعه الخاص ويتبع في ذلك منهجا يتفق مع طبيعة الموضوع وهذا يؤهله لأن يكون جديرا بأن يعد من مجموع العلوم .

إن العلوم أنواع مختلفة واعتبار التاريخ ليس مؤهلا لأن يكون علما صحيحا مثل الرياضيات والفيزياء لأن نتائجه ليست دقيقة وثابتة فهو علم يهتم بالحوادث الإنسانية ويتبع طرقا علمية في تحليلها ودراستها وإذا كانت العلوم الإنسانية لم تصب من التقدم ومن الدقة نصيبا يعادل ذلك الذي حققته الفيزياء مثلا فإن هذا الوضع الذي توجد عليه حاليا لا يمنع من السير نحو المزيد من التقدم والضبط . فالعلم طريقة في التفكير ونظام في العلاقات أكثر منه جملة من الحقائق . إذ يمكن للمؤرخ أن يقدم دراسة موضوعية فيكون التاريخ بذلك علما , فالعلمية في التاريخ تتوقف على مدى التزام المؤرخ بالشروط الأساسية للعلوم . وخاصة الموضوعية وعليه فإن مقعد التاريخ بين العلوم الأخرى يتوقف على مدى التزام المؤرخين بخصائص الروح العلمية والاقتراب من الموضوعية .

 

 

بإمكان العنف أن يدمر السلطة,لكنه بالضرورة عاجز عن خلقها

انطلاقا من القولة,ما طبيعة العلاقة بين العنف والسلطة؟

يعتبر العنف موضوعا مهما في الفلسفة السياسية نظرا لتواجده القوي حيثما ثم النقاش حولها وهو من المفاهيم الإشكالية المحضة

و التي حضيت باهتمام العديد من الفلاسفة و المفكرين فرغم تعارض العنف و السلطة فإن الحديث عن أحدهما يستدعي بالضرورة استحضار الاخر و كأنهما توأمان سياميان لا يكادان يفترقان فماهي نوعية العلاقة التي تجمع بينهما وما طبيعتها

في البداية ينبغي نفض الغبار عن القولة و كشف اللبس الذي تخلقه المصطلحات المتضمنة فيها فما نقصد بالعنف هو سلوك انساني عدواني قصدي يهدف الى تحطيم الغير و تدميره قصد تحقيق مصلحة ما وما المقصود بالسلطه هي كل الاجهزة القانونية التي تمثل الدولة و تعمل على تنظيم الحياة المدنية كما تسعى هذه السلطة الى الحفاظ على كيان الدولة و كبح جماح كل من اراد المساس بها فهي بذلك تكون في حالة اسخدام دائم للعنف بغية ضمان الاستقرار العام لكن ألن يتسنى لهذه السلطة ان تفرط في استعمال هذا العنف خدمة لمصالحها او لصالح طبقة معينة

بعد هذه القراءة البسيطة و التي لم نجد اي استغناء عنها يمكن التساؤل عن ماهية المضمون الذي  تقدمه القولة و ما الأطروحة التي تدافع عنها و ما هي قيمتها في مجال الفلسفة الواسع

يعتمد صاحب القولة على لفظة إمكان و هي تفيد النسبية مع جواز وصول الغاية ليوظف في مرحلة ثانية ـ لكن ـ و هي تفيد تجاوز ما سبق اي إمكانية تدمير العنف للسلطة لكنها هنا جاءت لتؤكد قوة هذه الفكرة إلىبعيد تعتبر ان العنف في حالة عجز أمام خلق سلطة

و في محتوى القولة اطروحة ذات بعد اخلاقي عقلي عملي فما فتئت الاخلاق ضمن غايتها المنشودة تستنكر العنف مهما كانت دواعيه كما ان العقل متقابل ومتضارب مع العنف فإذا كان هذا الاخير يهدف إلى تدمير الإنسان فإن العقل بخلاف ذلك فوظيفته الاساسية تكمن في الحفاظ على الحياة الإنسانية و ما دام ان لكل منهما غاية و غاياتهما مختلفتان فإن وجود القل نفي حتمي للعنف و العنف هو ايضا نفي حتمي للعقل فاينما وجد احدهما اختفى بالضرورة الآخر لكن و مع التقدم الذي عرفته الإنسانية في مختلف مراحل التاريخ جعل من العقل وسيلة في يد العنف حيث اضحت مجمل دول العالم تعقلن هذا العنف اي ان وسائله اصبحت متطورة تجعل العقل في حالة ذهول عند استكشافها

و نتيجة لذلك فالفرد اينما حل و ارتحل سيجد هذه التقنية وما عليه إلا الاختيار بين الإنصياع و الإمتثال او التعنيف و التدمير

إن الهدف من إقامة السلطة هو رعاية مصالح الافراد و الحريات العامة وليس لذينا هنا ادنى شك فللهروب من حالة الطبيعة و التي تتسم بالعنف الطبيعي على حد تعبير احد المفكرين المهتمين بمقاربة هذه الحالة وجب الإتكال على عقد جمعي اجتماعي يتم فيه تنازل الافراد عن كل حرياتهم لصالح حرية واحدة وهي حرية الراعي و بذلك ستختفي تلك الحالة الطبيعية الموشومة بصفات الشر والانانية والخيانة..

وقد اتفق على هذا القول جملة من الفلاسفة و المفكرين نستحضر بعض أقوالهم فيقول هوبز في وصفه لهذه الحالة 'إنها حالة حرب الكل ضد الكل' كما يقول 'السمك الكبير يأكل السمك الصغيز وفي قولة اخرى 'الإنسان ذئب لاخيه الإنسان ' هذا التنازل التنازل اي تنازل الافراد يكون مقابل تنعمهم بالتعبير عن ما يختلج بواطن نفوسهم والإفصاح عن قدراتهم العقلية والبدنية وفي هذا الإطار ستكون وظيفة السلطة هي حماية الخيرات العامة والممتلكات الخاصة و جر لجام كل من طلق العنان لنفسه موظفة لذلك عنفها المزعوم أنه مشروع و عنذ ذلك ستنتهي الوظيفة التي كنا قد اتفقنا عليها فيما سبق و سترفع المفارقة رأسها في الافق معلنةً التناقض الحاصل بين الغاية من قيام السلطة ووجهها المألوف المتمثل في استعمال العنف فإذا كانت وظيفة السلطة في بادئ الأمر تتجلى في إشعاع الحرية وفصل السلط خاصة تلك التي اشار إليها مونتسكيو فإن وظيفتها هاته ستنتهي حتماً عند استعمالها للعنف وكما هو معلوم فمن طبيعة السلطة الإفراط في استعمال القوة والعنف وذلك حتى تتمكن من بسط سيطرتها و ضمان مكانتها وانصياع الأغلبية لها

 

ونتيجة لذلك يمكن الإنتقال من الإمكانية الموظفة في القولة والقول بكل إثبات وتأكيد ان العنف هنا عجّل بزوال السلطة بل و دمرها

وهذه السلطة السياسية لا يمكن ان تعتمد على هذا العنف في إقامة كيانها و نصب أعمدتها ووضع حجر الاساس لقيامها فالخضوع لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون ملزماً بل قد تكون هناك ردة فعل لا يمكن حصر نتائجها و بذلك ستكون السلطة تمام العجز عن إبراز سلطتها وبسط سيطرتها إن هي اعتمدت على العنف

ولتدعيم هذه الأطروحة يمكن الإعتماد على الأكاديمية الفرنسية جاكلين روس كمرجع أساسي والتي تعتبر ان وظيفة السلطة لا تقوم على تخويف الناس و إرهابهم ولا في استعمال اساليب القوة والعنف عليهم بل يجب ان تثمتل غايتها في إشاعة الحق والقانون بمعنى ان بين العنف والسلطة هوة كبيرة لايمكن الجمع بينهما فإذا كان فصل السلط التي دعت له جاكلين روس يعمل على ضمان المشاركة السياسية الجماعية فإن العنف سيُخلي سبيل الشعب قامعا إياه واضعا حدا أمام حريته وإرادته المتعطش لهما كما ان للقانون شأن كبير تجلى في إقامة حدود بين الناس

وفي نفس السياق يمكن يستثمار موقف جون لوك الذي اعتبر ان السلطة لا يمكن أن تقوم على العنف و إذا ما تم ذلك فستنتهي وضيفتها المنشودة والمتمتلة في حماية الخيرات المدنية والحريات العامة بعدم التدخل في ذوي النفوس

وفي اتجاه معاكس يرى الالماني ماكس فيبر ان العلاقة بين السلطة والعنف هي علاقة قوية وجد حميمية إذ ان وظائف السلطة (الدولة) إن هي ارادت التحقق وجب عليها الإتكال على العنف بل تجاوز ذلك إلى حد اعتبر فيه ان هذ العنف هو عنف مشروع فلتجاوز الواقع المعيش يجب على العنف أن يكون في قبضة يد السلطة فمثلاً عند اندلاع ثورات وقيام مظاهرات فانذاك لا مجال لأي تفاهم و حوار وما العنف إلا الوسيلة الوحيدة لتجاوز تلك الازمات

وفي نفس السياق يرى  الايطالي نيكولا ميكيافيللي على أن العنف ضرورة فرضتها طبيعة الانسان الشريرة فالراعي أو الامير كما يحب ميكيافيللي أن يسميه وجب عليه التحلي بعدة صفات إن هو أراد أن يتحكم في زمام أموره وأن يضع قواعد الإنضباط الجماعي صفات من قبيل التنكر للوعود والعهود الخارجية المكر و الخديعة والقوة إذ يجب عليه استعارة سمات من عالم الحيوانات فعليه ان يكون ذئبا و أسدا فإن دلت هذه الصفة الاخيرة على شئ فإنما تدل على كون انه في حالة ضرورة ملحة باستعمال القوة لارهاب الرعية الذين أصبحوا كذلك و بخلاف المواطنين بالنظر إلى نوع هذ السلطة

وكتخريج عام فالحديث عن نوع العلاقة بين العنف والسلطة هو حديث متعدد الابعاد متشعب الافكار والمواقف المطروحة بصدده جلها تأرجحت بين التنافر و التلاحم فإذا كان كل من جاكلين روس و جون لوك قد اكدوا على ان العنف ماهو إلا انتفاء للسلطة فإن عالم الإجتماع ماكس فيبر وإلى جانبه الفيلسوف والمفكر السياسي نيكولا ميكيافيللي قد اثبتا على ان العنف شرط اساسي تقوم عليه السلطة

وصفوة القول ومن وجهة نظر منطقية فالعنف وإن كان يتسم بالعدوانية واللاأخلاقية فوظيفته قد تكون أحيانا إيجابية ومن ثم لا ينبغي التنازل عنه مع ضروره إعماله في الوقت المناسب

ولكن ألا يمكن إضفاء طابع المشروعية على هذا العنف حتى يتم استعماله بمعزل عن الإفراط ؟

 

 

 
  Aujourd'hui sont déjà 7 visiteurs (15 hits) Ici!  
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement